ومشيت من البيت الذي ألبسته الميتة معنى القبر، إلى القبر الذي ألبس الميتة معنى البيت وأنا منذ مشيت في جنازة أمي "رحمها الله" لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فأتبع من الميت صديقا ليس رجلا ولا امرأة، لأنه من غير هذه الدنيا؛ وأمشي في ساعة ليست ستين دقيقة، لأنها خرجت من الزمن؛ ولا أرى الطريق من طرق الحياة، لأنني في صحبة ميت؛ وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عمي الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية خفيت من شدة ما ظهرت.
يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، ولكن خضم آخر زخار متضرب، هو ذلك البحر الترابي العظيم المسمى "المقبرة".
يقولون: إن الحياة هي ... هي ماذا -ويحكم- أيها المغرورون؛ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟
لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبا مع قلوبهم فيحس المرء بقلب، ويعمل بقلب آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرفة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيا إلى ربه, ما في ذلك شك, ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فر من ربه.
هبت الريح في السحر على روضة غناء فطابت لها، فعقدت عقدتها أن تتخذ لها بيتا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه. يا لها حكمة من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف.
يا لها حكمة سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحمق!
همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيق على نفسه أو وسع، وأصبح ينظر بعين من عمله إما مبصرة أو كالعمياء؛ فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: إن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل. وما أعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا!
ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا، هو بعينه الذي يكون مستقبلكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا