للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تنقصون. وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى, من العظماء إلى الفقراء؛ ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وأنتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة؛ إن التام على الأرض من تم بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تم بنفسه وحدها.

يا أسفا! لن يقول الميت للحي شيئا، ومن يدري؟ لعلنا ونحن نلحد للموتى وننزلهم في قبورهم، يرون بأرواحهم الخالدة أننا نحن موتاهم المساكين، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه "الكرة الأرضية" وهل الكرة الأرضية من اللانهاية إلا حفرة برجل نملة لتدفن فيها نملة.

الحياة ... أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد, حلال أو حرام.

ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسة أطفال صغار لو أنهم هم الذين انتزعوا من أمهم لترك كل واحد على قلبها مثل المكواة المحمى عليها في النار إلى أن تحمر؛ ولكن أمهم هي التي نزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفا لسكرة الموت عليها. وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم. وكانوا هم عقلها في ساعة الموت!

تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها!

تبارك الذي أثاب الأم ثواب ما تعاني، فجعل فرحها صورة كبيرة من فرح صغارها!

وجاء أكبر الأطفال الخمسة، وكأنه ثمانية أرطال من الحياة لا ثمانية أعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم!

وطغت عليه الدموع فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!

وظهر الانكسار في وجهه يعبر ببلاغة أنه قد أحس حقيقة ضعفه وطفولته بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلس مستسلما تترجم هيئته معاني هذه الكلمة: "رفقا بي! ".

<<  <  ج: ص:  >  >>