ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها!
ثم يرخي عينيه في إغماضة خفيفة، كأنما يرجو أن يرى أمه في طويته!
ولا يصدق أنها ماتت، فإن صوتها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس!
ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه، فينطق جسمه كله بهذه الكلمة" يا أمي! ".
أحس -ولا ريب- أنه قد ضاع في الوجود، لأن الوجود كان أمه.
ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة, لأن فيه قلب أمه وروحها.
وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير؛ لأن تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة قد أخذت منه وتركته بلا حق في أحد؛ وليس لأحد أمان!
ولبسته المسكنة، لأن له شيئا عزيزًا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه!
ولبسته المسكنة، لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان!
وارتسم على وجهه التعجب، كأنه يسأل نفسه:"إذا لم تكن أمي هنا، فلماذا أنا هنا؟ ".
ثم تغرغرت عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة؛ نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة!
انتهت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الأم؛ فهذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى؛ إذ يأتي الغد ومعك أمك!
وبدأت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الزمن، وسيأتي كل غد محجبا مرهوبا؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك!
الأم ... يا إلهي! أي صغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟