حجابًا آخر من الأمر بغضّ البصر، إذ لا يكفي حجاب واحد، فإن الطبيعة الجنسية تنظر بالداخل والخارج معًا؛ ثم يطرد عن المرأة كلمة الحب إلا أن تكون من زوجها، وعن الرجل إلا أن تكون من زوجته؛ إذ هي كلمة حيلة في الطبيعة أكثر مما هي كلمة صدق في الاجتماع، ولا يؤكد في الدين صدقها الاجتماعي إلا العَقْد والشهود لربط الحقوق بها، وجعلها في حياطة القوة الاجتماعية التشريعية، وإقرارها في موضعها من النظام الإنساني؛ فليس ما يمنع أن يكون العاشق من معاني الزوج، إما أن يكون من معنى آخر أو يكون بلا معنى فلا؛ وكل ذلك لصيانة المرأة، ما دامت هي وحدها التي تلد، وما دامت لا تلد للبيع.
وفلسفة هذه الطائشة فلسفة امرأة ذكية مطلعة محيطة مفكرة، تبصر لكتب العقل والحوادث جميعًا، وقد أصبحت بعد سقطة حبها ترى الصواب في شكلين لا شكل واحد؛ فتراه كما هو في نفسه، وكما هو في أغلاطها.
وقد أسقطنا في رواية مجلسها ما كان من مطارحات العاشقة، واقتصرنا على ما هو كالإملاء من الأستاذة.
قال صاحب الطائشة: ذكرت لها "قاسم أمين" وقلت: إنها خير تلاميذه وتلميذاته, حتى لكأنها تجربة ثلاثين سنة لآرائه في تحرير المرأة. فقالت: إنما كان قاسم تلميذ المرأة الأوروبية، وهذه المرأة بأعيننا فما حاجتنا نحن إلى تلميذها القديم؟
قالت: وأبلغ من يرد على قاسم اليوم هي أستاذته التي شبت بها أطوار الحياة بعد، فقد أثبت قاسم -غفر الله له- أنه انحصر في عهد بعينه ولم يُتبع الأيام نظره، ولم يستقرئ أطوار المدنية؛ فلم يقدر أن هذا الزمن المتمدن سيتقدم في رذائله بحكم الطبيعة أسرع وأقوى مما يتقدم في فضائله، وأن العلم لا يستطيع إلا أن يخدم الجهتين بقوة واحدة، فأقواهما بالطبيعة أقواهما بالعلم، وكأن الرجل كان يظن أنه ليس تحت الأرض زلازل, ولا تحت الحياة مثلها.
مزَّق البرقع وقال:"إنه مما يزيد في الفتنة، وإن المرأة لو كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خَلْقها -على الغالب- ما يرد البصر عنها". فقد زال البرقع، ولكن هل قدر قاسم أن طبيعة المرأة منتصرة دائمًا في الميدان الجنسي بالبرقع وبغير البرقع، وأنها تخترع لكل معركة أسلحتها، وأنها إن كشفت برقع الخز فستضع في مكانه برقع الأبيض والأحمر؟