للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العظيم، وتقع فيه المدينة لكل أذان وتطير, هل تعلمون أنه خلا قَطّ من الناس وقد وجبت الفريضة؟ قالوا: ما نعلمه.

قال: فقد كان ذلك لعشرين سنة خلت في موت الحسن١، فقد مات عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهل البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقَمْ صلاة العصر بهذا المسجد، وما تُرِكَتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعة موته من عمر من شهدها، فذلك يوم عجيب قد لف نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيت في نفس رجل ولا امرأة شهوة إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطله، كما يفرغ من أيقن أن ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموت في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناء في موت آبائهم وأمهاتهم، ولا الآباء والأمهات في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيز على أهل بيت فيكون الموت واحدًا وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موت الحسن موتًا بعدد أهل البصرة!

ذاك يوم امتد فيه الموت وكبر، وانكمشت فيه الحياة وصغرت، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يلقى فيها الملوك والصعاليك والأخلاط بين هؤلاء وأولئك، لا يصغر عنها الصغير، ولا يكبر عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك، حتى رجعت الدنيا على قدر جِيفة حيوان بالعَرَاء، تنكشف للأبصار عن شَوْهاء نجسة قد أَرَمَّت٢ لا تطاق على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس؛ وما تتفجّر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض.

تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى، فأبصرتُني حين كنت مثله يافعًا مترعرعًا داخلًا في عصر شبابي، فكأنما انتبهت عيني من هذه النفس على فاتك خبيث كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلًا ثم بُعث!

إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فأرعوه أسماعكم، وأحضروه أفهامكم،


١ هو الحسن البصري الإمام العظيم، وسيأتي وصفه، ولد سنة ١٥ للهجرة وتوفي سنة ١١٠، وقد توفي مالك بن دينار شيخ هذه القصة في سنة ١٣١، فيكون تاريخ القصة في سنة ١٣٠.
٢ أرمت: بدأت تتعفن وتبلَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>