لا حفظها. وقد كان قومنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها ورقها الأخضر وزهرها، وعلى ظاهرها حياة باطنها، فلما ثبت الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلب وأحواله، أصبحوا كالشجرة اليابسة، عليها ورقها الجافّ، ليس في بقائه ولا سقوطه طائل.
ما أصبحت ولا أمسيت منذ حفظت تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي التي دلتني بمعانيها أن ليست الحياة الأرضية شيئًا إلا ثورة الحي على ظلم نفسه، يستكف عنها أكثر مما يستجر لها، والناس من شقائهم على العكس، يستجرون أكثر مما يستكفون، وإنما السعيد من وجد كلمات روحانية إلهية يعش قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسن ما يعمل، ومن ثم لا يكون جهاده مراغمة أو خضوعًا في سيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياة كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويدعها.
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى!
قال الشيخ: وكان مما حفظته من تفسير الحسن قوله:
إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمة في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}[هود: ١] ١.
يقول الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: ١٦] .
١ طريقتنا في اكتناه إعجاز القرآن، أن الكلمة الواحدة من كلماته لها جهات عدة؛ كما ترى فيما نشرحه من تفسير هذه الآية، وفيما جئنا به من تفسير آيات سبقت في المقالات الأخرى؛ فالبحث في فهم القرآن يجب أن يكون في اللفظة، ووجه اختيارها، وسياق تركيبها، وما تدل عليه في كل ذلك، وما يدل كل ذلك بها. وقد بسطنا هذا في كتابنا: إعجاز القرآن.