للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورآهم الأدهم يُنزلون اللقطاء، فاستخفه الطرب، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقول له: إنما هو النزوع إلى الحرية، فإن لم تكن لك في ذاتها، فلتكن لك في ذاتك، وإذا تعذرت اللذة عليك، فاحتفظْ بخيالها، فإنه وصلتك بها إلى أن تمكن وتتسهل؛ ولا تجعلن كل طباعك طباعًا عاملة كادحة، وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياة كما تريدك، وليكن ذلك طبعا شاعرا مع هذه الطباع العاملة، فتكون لك الحياة كما تريدك وكما تريدها.

إن الدنيا شيء واحد في الواقع؛ ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال دنيا وحدها.

وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزوير للأم على هؤلاء الأطفال المساكين؛ فلما سكنت العربة انحدرت منهما واحدة وقامت الأخرى تناولها الصغار قائلة: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ... إلى أن تم العدد وخلا قفص الدجاج من الدجاج!

ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم، إلا هذا الإحسان البخس القليل.

جاءوا بهم لينظروا الطبيعة والبحر والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات.

وا كبدي! أضنى الأسى كبدي؛ فقد ضاق صدري بعد انفساحه, ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء، وعرتْني منهم علة كدَسّ الحمى في الدم؛ وانقلبتُ إلى مثواي، والعربة وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي.

فلما طاف بي النوم طاف كل ذلك بي، فرأيتني في موضعي ذاك، وأبصرت العربة قد وقفت، وتحاور الأدهم والكميت؛ فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفتها التفتا معًا، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان!

قال الكميت: كنت قبل هذا أجر عربة الكلاب التي يقتلها الشرطة بالسم، فآخذ الموت لهذه الكلاب المسكينة، ثم أرجع بها مَوْتَى؛ وكنت أذهب وأجيء في كل مراد ومضطرب من شوارع المدينة وأزقَّتها وسِكَكها، ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتُليتُ بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلًا آخر وقع في نفسي

<<  <  ج: ص:  >  >>