على الخشية والنفرة منها. ولا يستقيم شأن ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به.
وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشق عليه إلا لذة المغالبة للنصر: كل مرارة من قبله هي حلاوة فيه من بعد, ولا يعرف للمحنة يبتلى بها إلا معناها الحقيقي وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن تحبه؛ صبر فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيال الاستمتاع، ويذيق النفس في العجز عن بعض أغراضها, لذة كلذة إدراكه.
تلك هي فلسفة الإسلام؛ لا قوام للأمر فيها ولا مساك له إلا بتقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابع الجنة على أعمال الجنة، وطابع النار على أعمال النار -وحياطة كل فرد من الناس حياطة رياضية عملية بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيته-وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية، فلا يحاول كل إنسان أن يجعل بطنه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية، بما ينتقص من حقوق غيره؛ بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية؛ وبهذا لا بغيره تعين مقاييس الأخلاق في الأرض بالمصلحة لا باللذة؛ فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحل المشكلة الاجتماعية ما دامت الحياة لا تجد من أهلها كل ساعة عقدًا فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحده الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نسقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقة لتطهير التاريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية، التي جعلته كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس، وتركت الناس يهدم بعضهم بعضا، كما يهدم الجار حائط جاره ليوسع بيته.
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكون الفقير معدما ويتعفف، ويكون الغني موسرا ويتصدق، ويكون الشره طامعا ويمسك، ويكون القوي قادرًا ويحجم، وكما قال العربي في تحقيق ناموس الأنفة والحمية وغلبته على الناموس الاقتصادي:"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها".