وهي قبل كل هذا ومع كل هذا تنطوي على حكمة رائعة لم يتنبه لها أحد، ومن أجلها ذكرت في القرآن الكريم، لتكون نصا تاريخيا قاطعا يدافع به التاريخ عن هذا النبي العظيم في أمر من أمر العقل والغريزة، فإن جهلة المبشرين في زمننا هذا، وكثيرا من أهل الزيغ والإلحاد، وطائفة من قصار النظر في التحقيق يزعمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة وشهوات كالشهوات؛ ويتطرقون من هذا الزعم إلى الشبهة، ومن الشبهة إلى سوء الظن، ومن سوء الظن إلى قبح الرأي؛ وكلهم غبي جاهل؛ فلو كان الأمر على ذلك أو على قريب منه أو نحو من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعا منها، وتصحيح النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جو لا يكون أبدًا جو الزهر ... وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعا بين سراحهن فيكن كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة, وبين إمساكهن فلا يكن معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها.
فالقصة نفسها رد على زعم الشهوات، إذ ليست هذه لغة الشهوة، ولا سياسة معانيها، ولا أسلوب غضبها أو رضاها، وما ههنا تمليق، ولا إطراء، ولا نعومة، ولا حرص على لذة، ولا تعبير بلغة الحاسة؛ والقصة بعد مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب, ولا أثر ولا بقية أثر من ميل النفس, ولا حرف أو صوت حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تستمال به المرأة، فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهن، بل نفت الأمل في ذلك أيضا إلى آخر الدهر، وأماتت معناه في نفوسهن، بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها, فليس هنا ظرف، ولا رقة، ولا عاطفة، ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها، ولا زلفى لأنوثتها، ثم هو تخيير صريح بين ضدين لا تتلون بينهما حالة تكون منهما معا، ثم هو عام لجميع زوجاته لا يستثنى منهن واحدة ولا أكثر.
والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها أول ما يخاطب، ويشبعه مبالغة وتأكيدًا، ويوسعه رجاء وأملًا، ويقرب له الزمن البعيد، حتى لو كان في أول الليل وكان الخلاف على الوقت، لحقق له أن الظهر بعد ساعة.