رآها ... ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحيانا في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليعبس فيه!
قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر, وهل أظل دائما بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر؛ لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوبا وتخريما كأنه خشبة نزعت منها مسامير غليظة ... ! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك لجمال؟ وهل بد من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارتصد له من عمل يحيا به؛ فلا يكون الحوذي حوذيا إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير؟
وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب؛ فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلا أحيانا، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة، فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غما وكمدا، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق, كالذي قيد وحبس في رهج تثيره القدم والخف والحافر, لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه.
اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة؛ فإنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات, هذا ليس لي؛ هذا لا ينبغي لي.
إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي.
وعلم خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسة نفسا تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين كلهن يتنازعنه، فيضيع بهذه الكثرة, ويصبح بعضه بلاء على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما ألقي فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها.
هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.