للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء، فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة؛ كما يرى الأعمى بوهمه، لا عينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.

قال المسيب: وكان الشمس قد طفلت للمغيب؛ فقال الإمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ الوضوء، وسأعلمك أمرا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة, وأنه رمز للسماء عندك، وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على أطرافك؛ ثم سم الله تعالى مفيضا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معا، ثم تمثل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك آخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك؛ وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئا إلا مسحة سماوية تسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛ وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويا لا أرضيا.

فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادة لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتممت أو تسخطت أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس، فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة١. وترى الماء تحسبه هدوءا لينا لين الرضى، وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا.

قال المسيب: وقمت أنا فجددت وضوئي على هذه الصفة بتلك النية، فإذا أنا عند نفسي مستضيء بروح نجمية لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات، وابتدؤه للروح كالنبات الأخضر ناضرا مطولًا مترطبا بالماء.

ثم صلى بنا الشيخ, وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات أن تبدو له فتنقص عزمه، أو هو زادني عليه لأغير شخصه وأبدل وحدته التي كان فيها، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.


١ هذه في رأينا حكمة تكرار الوضوء وتلك هي أسراره عندنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>