للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغُرت أَجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصًا يحده ويحبسه، فصغر هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد؛ أما أنا فأسد على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدًا تتسع ولا تزال تتسع أبدًا، وإن الحرية لتجعلني أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خَلَّتان من خلال النفس: أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلًا، وهذه ليست لمثلي ما دمت على حد الكَفَاف من العيش؛ وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي ما دمتُ على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قِبَل الذات، لا من قبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سَعِد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقَى.

ولقد كنتُ الساعة أَخْتِل فأرة انجحرتْ في هذا الشق، فطمعتُ منها لذة وإن لم أُطعم لحمًا، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعًا، ولكن الوجع أحدث لي الاحتراس، وسأغشَى الآن هذه الدار التي بإزائنا، فأية لذة في السلة والخطفة والاستراق والانتهاب ثم الوثب شدًّا بعد ذلك؟ هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والنهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جُرَذ، أو أدركت يومًا فرحة النجاة بعد الرَّوَغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّلك طفل بالضرب، فهولته أنت بالعض والعقر، ففر عنك منهزمًا لا يلوي؟

قال السمين: وفي الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري, هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نُكْرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه. فقطع عليه الهزيل وقال:

يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة أسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيرًا، وأهوى عليَّ بالضرب لأنطلق حرًّا، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ.

وكانت الفأرة التي انجحرتْ قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر

<<  <  ج: ص:  >  >>