للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم هممت أن أنكص على عقبي، فقد أيقنت أن الشيخ إنما تخلى عني لأكون هنا بنفسي لا به، وما أنا هنا إلا به لا بنفسي، فيوشك إذا بقيت في موضعي أن أهلك! بيد أن المغارة انكشفت لي فجأة فما ملكت أن أنظر؛ ونظرت فما ملكت أن أقف، ووقفت أرى، فإذا دخان قد هاج فارتفع يثور ثورانه حتى ملئ المكان به، ثم رق ولطف.

واستضرمت منه نار عظيمة لها وهجان شديد يتضرم بعضها في بعض، ويسمع من صوتها معمعة قوية، ثم خمدت.

وانفجر في موضعها كالسد المنبثق من ماء كثيف أبيض أصفر أحمر، كأنه صديد يتقيح في دم، ثم غاض.

وتنبعت في مكانه حمأة منتنة جعلت تربو وتعظم حتى خفت أن تبتلعني وأذهب فيها، فسميت الله -تعالى- فغارت في الأرض.

ثم نظرت فإذا كلب أسود محمر الحماليق، هائل الخلقة مستأسد، قد وقف على جيفة قذرة غاب فيها خطمه يعب مما تسيل به.

فقلت: أيها الكلب، أأنت الشيطان؟

وأنظر فإذا هو مسخ شائه كأنه إنسان في بهيمة قد امتزجا وطغى منهما شيء على شيء، وأما وجهه فأقبح شيء منظرًا، تحسبه قد لبس صورة أعماله.

ونطق فقال: أنا الشيطان!

قلت: فما تلك الجيفة؟

قال: تلك دنياكم في شهواتها، وأنا ألتقم قلب الفاسق أو الآثم منكم، كما ألتقم دودة من هذه الجيفة.

قلت: عليك لعنة الله وعلى الفاسقين والآثمين، فكيف كنت دخانا، ثم انقلبت نارًا، ثم رجعت قيحا، ثم صرت حمأة، ثم كنت كلبا على جيفة؟

قال: لا تلعن الفاسقين والآثمين، فإنهم العباد الصالحون بأحد المعنيين، وأنت وأمثالك عباد صالحون بالمعنى الآخر، أليس في الدنيا حياء ووقاحة؟ فأولئك يا أبا الحسن هم وقاحتي أنا على الله! أنا منكم في زهدكم حرمان الحرمان، وفقر الفقر، ولقد أهلكتموني بؤسا؛ غير أني معهم لذة اللذة، وشهوة الشهوة، وغنى الغنى، لا تتم لذة في الأرض، ولا تحلو لذائقها وإن كانت حلالًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>