للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الشعب أميا جاهلا لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز، فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجودة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقبا من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتي ...

وكأن اللقب إعلان من الحكومة المستبدة لشعبها الجاهل: إنه هذا البك والباشا من يحق له أن يحترم.

من الهزل أن يشتري اسم النصر الحربي أو يوهب أو يعار؛ وأقبح منه في باب الهزل أن ينعم على مثل هذا الأمي بلقب باشا. وأنا أعرف أنه قد بذل في سبيله ما بذل، وأضاع ما أضاع، فكأن الذين منحوه إياه لم يفعلوا شيئا إلا وضع توقيعهم على أخذ الثمن.

ولقد أصبح الرجل تحت تأثير الكلمة العظيمة مخبولا بسحرها الوهمي، فحسب ذلك إدخالا له في وظيفة كل حاكم، وإشراكا له في الحكم متى اقتضته مجاري أموره وأحواله، أو حاجات أسبابه وأتباعه؛ وها هو ذا قد جاء يطلب حقه، فإن مثله لا يفهم من لقب "باشا" إلا أن الحكومة قد سوغت سلطته الظهور والعمل، فمدت باعه وقوت أمره ونوهت باسمه لمصالحها وعمالها؛ فهو عند نفسه قد التحم منذ اليوم بالنسب الحكومي، وفي كلمة واحدة، هو قد ولد من بطن الحكومة ...

ألا ترى أن الشعب لو استرد سلطته الكاملة، وأن الناس لو أيقنوا أن الألقاب ألفاظ فارغة من الأمر والنهي والوسيلة والشفاعة، لما بقي من يعبأ بها، ولكان حاملها هو أول من يسخر منها؟

فهي إذن شعبذة١ من الحكومة وتضليل في مثل هذا الرجل الأمي، وهي ضرب من التهويل والمبالغة في سواه من الكبراء والعظماء، كأن الوزير الذي يقلب بالباشا، يجعل فيه لقبه وزيرين، وكأن مثل هذا الأمي المغفل، يجعل فيه لقبه شخصًا، آخر غير الأمي المغفل.

أنا قلما رأيت رجلا يحتاج إلى ألقاب يتعظم بها إلا وهو لا يستحقها، وقلما رأيت رجلا يستحقها إلا وهو لا يحتاج إليها؛ فأين يكون موضع هذه الرتب والألقاب؟


١ الشعبذة والشعوذة بمعنى واحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>