وعلى تاريخ أمته، بيد أن سعدا قالها؛ وفي مثل هذا يكون قول "لا" معركة.
وها هي ذي معركة اليوم التاريخية، فإن الذرات الحية التي تخلق من دمائنا -نحن المصريين- قد ثارت في هذه الدماء، في هذا النهار، تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود.
أتدري ماذا عرضوا على سعد؟ إنهم عرضوا عليه ما يشبه في السخرية طاحونة تامة الأدوات والآلات من آخر طراز، ثم لا تقدم لها إلا حبة قمح واحدة لتطحنها ... نتيجة تسخر من أسبابها، وأسباب تهزأ بالنتيجة.
إن أوروبا لا تحترم لا من يحملها على احترامه، فما أرى للسياسيين في هذا الشرق عملا أفضل ولا أقوى ولا أرد بالفائدة من إحياء الحماسة في كل شعب شرقي، ثم حياطتها وحسن توجيهها؛ فهذه الحماسة الشعبية الدائمة القوية البصيرة، هي قوة الرفض لما يجب أن يرفض، وقوة التأييد، لما يجب أن يقبل، وهي بعد ذلك وسيلة جمع الأمر، وإحكام الشأن، وإقرار العزيمة في الأخلاق، وتربية الثقة بالنفس، وبها يكون إذكاء الحس وتعويده إدراك الأعمال العظيمة، والتحمس لها، والبذل فيها.
وما علة العلل فينا إلا ضعف الحماسة الشعبية في الشرق، وسوء تدبيرها، وقبح سياستها؛ وإنا لنأخذ عن الأوروبيين من نظامهم وأساليبهم وسياستهم وعلومهم وفنونهم؛ فنأخذ كل ذلك بروحنا الفاترة في خمول وإهمال وتواكل وتفرد بالمصلحة واستبداد بالرأي، فإذا دينارهم في أيدينا درهم، وإذا نحن وإياهم في الشيء الواحد كالنحلة والذبابة على زهرة ...
ليست لنا حماسة الحياة، وبهذا تختلف أعمالنا وأعمالهم، وذلك هو السر أيضا في أن أكثر حماستنا كلامية محضة؛ إذ يكون الصراخ والصياح والتشدق ونحوها من هذه المظاهر الفارغة تنقيحا للطبيعة الساكنة فينا، وتنويعا منها بغير أن نجهد في التنقيح والتنويع. ومن هذا كانت لنا أنواع من الكلام ينطلق اللسان فيها للخروج من الصمت لا غير ... ومنه كثير من هذا الهراء السياسي الذي يدور في المجالس والأحزاب والصحف.
إن حماسة الشعب لا تكون على أعدائه فقط؛ بل على معايبه أيضًا، وعلى ضعفه بخاصة، والشعب الفاتر في حماسته لو نال حقين مغصوبين لعاد فخسر أحدهما أو كليهما، أما الشعب المتحمس القوى في حماسته، فلو غصب حقين ونال أحدهما لعاد فابتز الآخر.