للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ووقف يصغي إليهم متهيبًا أن يقدم، فاتصل بسمعه ونظره كالجبان، وتسمع فإذا خبيث منهم يعلم الآخر كيف يضرب إذا اعتدى أو اعتُدي عليه، فيقول له: اضرب أينما ضربت، من رأسه، من وجهه، من الحلقوم، من مَرَاقّ البطن؛ قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: وإذا مات فلا تقل: إني أنا علمتك!

وسمع طفلًا يقول لصاحبه: أما قلت لك: إنه تعلم السرقة من رؤيته اللصوص في السيما؟ فأجابه صاحبه: وهل قال له أولئك اللصوص الذين في السيما: كن لصًّا واعمل مثلنا؟

وقام منهم شيطان فقال: يا أولاد البلد، أنا المدير! تعالوا وقولوا لي: "يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات" فقال الأولاد في صوت واحد: "يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات" فرد عليهم "سعادته": اشتروا لأولادكم أحذية وطرابيش وثيابًا نظيفة، وأنا أدفع لهم المصروفات.

فنظر إليه خبيث منهم وقال: يا سعادة المدير، وأنت فلماذا لم يشتر لك أبوك حذاء؟

وقال طفل صغير: أنا ابنك يا سعادة المدير، فأرسلني إلى المدرسة وقت الظهر فقط!

وكان "عصمت" يسمع ونفسه تهتز وترف بإحساسها، كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس؛ وسَكِر بما يسكر به الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معدا مهيأ، كالحانة ليس فيها إلا أسباب الشكر والنشوة، وتمام لذتها أن الزمن فيها منسي، وأن العقل فيها مهمل.

وأحس ابن المدير أن هذه الطبيعة حين ينطلق فيها جماعة الأطفال على سجيتهم وسجيتها, إنما هي المدرسة التي لا جدران لها، وهي تربية الوجود للطفل تربية تتناوله من أدق أعصابه فتبدد قواه ثم تجمعها له أقوى ما كانت، وتفرغه منها ثم تملؤه بما هو أتم وأزيد وبذلك تكسبه نمو نشاطه، وتعلمه كيف ينبعث لتحقيق هذا النشاط، فتهديه إلى أن يبدع بنفسه ولا ينتظر من يبدع له، وتجعل خطاه دائمًا وراء أشياء جديدة، فتُسدده من هذا كله إلى سر الإبداع

<<  <  ج: ص:  >  >>