للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بشاشتها في النور؛ وتعرفه إنسانية قائمة تصحح بها أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجده يرف على البشرية المسكينة بحنان كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهم في تنافر صبياني.. وما الأم بطبيعتها إلا الميزان لاستبدادهم، والحكمة لطيشهم، والائتلاف لتنافرهم، والنظام لعبثهم؛ وبالجملة فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة.

وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته، ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التام الأداة هو الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، وأن علم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار -وأن الأديب مكلف بتصحيح النفس الإنسانية ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق١.

فإذا تدبرت هذا المقال، واعتبرت كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما بينا وشرحنا، وأخذته من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه، واستبرأت ما بينها من خواص الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بك، وعلمت أن كل حقيقة فنية لا تكون كذلك إلا بخاصة فيها، وأن سر جمالها في خاصتها -إذا جمعت ذلك لم تر مذهبًا عن الإقرار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو أعظم نبي وأعظم مصلح، فهو أعظم أديب؛ لأن فنه الأدبي أعظم فن يحقق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان. صلى الله عليه وسلم.

فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج إليها الوجود الروحاني على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه صلى الله عليه وسلم يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثلًا هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري ...


١ نشر هذا المقال في مقتطف شهر يوليو سنة ١٩٣٢، وأكثر ما فيه يعد متممًا لفلسفة هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقالاتنا في كتاب يصدر إن شاء الله في آخر صيف هذا العام؟
قلت: وأحسبه كان يعني كتابه "قول معروف" وقد استغني عنه بهذا الكتاب "وحي القلم" وقد نشرنا هذه المقالة في هذا الجزء وانظر ص١٦٩، ٢٣٤ "حياة الرافعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>