ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي الإيمان الممتلئ ثقة ويقينًا ووفاء وصدقًا وعزمًا وإصرارًا على فضيلته وثباتًا على ما يلقى في سبيلها لا يكون رجلًا كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته وغايته السامية لا تنفصل عنه، هو رجل صدق المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر.
والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب، تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون دينًا ضيقًا خاصًّا به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعًا بمذهب واحد؛ هو إجلال الماضي.
وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظمائهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه.
والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئًا نفسيًّا حقيقيًّا، حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة، وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا.
وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر.
ومتى صدقت الوطنية في النفس أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني.
وباللغة والدين والعادات، ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها، فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتساقه من تاريخه؛ وإذا ألجئ إلى حال من القهر لم ينخذل ولم يتضعضع، واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة إن لم تُترك لنفسها، لم تعط من نفسها إلا الوخز.....