الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة، ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة؛ ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر ما تهتم لها، وتستغني فيما أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائمًا مما أمكن، قل أو كثر.
وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها، ولولا ذلك لما زها طفل ولا شب غلام، ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة.
وكل ذلك هو أيضًا من خصائص الدين وبه يعمل الدين في تهذيب الحياة واطرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوي هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى، وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة.
ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبدًا بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل؛ لأنه طفل، وقلب المؤمن؛ لأنه مؤمن.
فقال العجوز "ن": إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة، فإن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة؛ والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل؛ ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النفرة وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة.
لقد جاء العلم بالمعجزات، ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب؟
قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز "ن" وقال: صل عمك يا بني بالأحاديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفًا من أمر التجديد والمجددين؟ وماذا قلنا وماذا قلت؟ أما