للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدودها كل يوم بداعية من دواعي الهوى؛ وكان لا يجد بنفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئًا، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلًا؛ وتمادى في حبه، واستولت عليه فكرة مرته بهذه المرأة؛ أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها، وكانت مسماة لابن عمها* فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذرًا شديدًا، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه في مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأنًا غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته.

وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء.. من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه موانسًا ورفيقًا؛ وجعله دسيسًا** إلى شهواته السافلة وكان يسميه فيما بينهما "إبليس"؛ فلما أراد أن يرميها به قال: يا سيدي، هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصمًا في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمشيها وتبذل عني ما شئت، ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجده في كل مكان، فيشري ما لا يشرى، ويبيع ما لا يباع! قال "إبليس": نعم يا سيدي، وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المال! قال: فأنت إذن لا تقبل؟ قال: ولا أرفض.. قال الشاب: قاتلك الله! لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين: أحدهما لك والآخر لها؛ ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال "إبليس": لما كنت في السجن عرفت لصًّا فاتكًا أعيا قومه خبثًا وشرًّا؛ وهذا السجن يحسبه عقابًا وردعًا ومنهاة عن الإثم، على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقي علوم الجريمة عن كبار أساتذتها؛ إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه؛ فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية، ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل! قال الفتى: ويحك! أين يذهب بك؟ إنما أرسلك إلى المرأة إلى السجن! قال: ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني ابن عمها: إلى السجن أم إلى


* معدة لخطبته، أو كما يقولون: قرأت مع أهلها الفاتحة.
** جاسوسًا وصاحب سر.

<<  <  ج: ص:  >  >>