للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: وماذا كان قبلها؟ إنه الحب: فيه مثل ما في "عملية جراحية" من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب، مبعثرة غير مجموعة! "آه" هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، ولألم البالغ، والمرض المدنف والحب الشديد؛ الشديد؛ فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس "بآه"!

قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق ... ؟

قال: لقد هجت لي داء قديمًا؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمني غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها! ثم ضحك وسكت.

قلت: يا عدو نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها؟

قال: أتصدقني؟ قلت: نعم.

قال: رأيت الهم على وجه هذه الجميلة كأنه هم مؤنث يعشقه هم مذكر؛ فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها، والآخر بمعنى الثورة لقلبي!

قلت: يا عدو نفسه! هذا كلام آخر؛ فهذه امرأة ناعمة بضة مطوي بعضها على بعضها، لفاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفنًا بارعًا في هذا وفنًّا مفردًا في ذاك؛ وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة* وهي تطالعك وتطعمك؛ وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها؛ ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتسبة المكفوفة** لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقًا مهتاجًا يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء!


* هذه كلمة استعملها بعض المولدين في معنى الظريفة "المدرجة"، وليس كذلك معناها في اللغة، ولكن الاستعمال صحيح عندنا واللغة لا تأباه.
** يستعمل الكتاب في هذا المعنى لفظ "المكبوتة"، وهو تعبير ضعيف، والأفصح ما ذكرنا هنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>