فكل أعلى وكل أسفل؟ هذا فلان شاعر قد أحاط بالشعر عربية وغريبه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسرق وينسخ ويمسخ، وهو عند نفسه الشاعر الذي فقدته كل أمة من تاريخها ووقع في تاريخ العربية وحدها ابتلاء ومحنة؛ وهو ككل هؤلاء المغرورين يحسبون أنهم لو كانوا في لغات غير العربية لظهروا نجومًا، ولكن العربية جعلت كلًّا منهم حصاة بين الحصى، وتقرأ شعره فإذا هو شعر تتوهم من قراءته تقطيع ثيابك، إذا تجاذب نفسك لتفر منه فرارًا.
وهذا فلان الكاتب الذي والذي ... والذي يرتفع إلى أقصى السموات على جناحي ذبابة.
وهذا فرعون الأدب الذي يقول: أنا ربكم الأعلى! وهذا فلان وهذا فلان ...
أين يكون الزمام على هؤلاء وأمثالهم؛ ليعرفوا ما هم فيه كما هم فيه، وليضبطوا آراءهم وهواجسهم، وليعلموا أن حسابهم عند الناس لا عند أنفسهم فالواحدة منهم واحدة وإن توهموها مائة وتوهمها بعضهم ألفًا أو ألفين، ومتى قال الناس: غلطوا، فقد غلطوا، ومتى قالوا: سخفاء فهم سخفاء.
وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قانون من التدمير والتخريب، فليس فيهم إلا طبيعة مكابرة لا إقرار منها، باغية لا إنصاف معها، نافرة لا مساغ إليها، متهمة لا ثقة بها؛ طبيعة يتحول كل شيء فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العود الرطب المشتعل إلى دخان أسود!
يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد: هو خلو العصر من إمام بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الإجماع ويكون ملء الدهر في حكمته وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله؛ فإن مثل هذا الإمام يخص دائمًا بالإرادة التي ليس لها إلا النصر والغلبة والتي تعطي القوة على قتل الصغائر والسفاسف؛ وهو إذا ألقي في الميزان عند اختلاف الرأي، وضع فيه بالجمهور الكبير من أنصاره والمعجبين بآدابه، وبالسواد الغالب من كل الفاعليات المحيطة به والمنجذبة إليه؛ ومن ثم تتهيأ قوة الترجيح ويتعين اليقين والشك؛ والميزان اليوم فارغ من هذه القوة فلا يرجح ولا يعين.
ومكانة هذا الإمام تحد الأمكنة، ومقداره يزن المقادير، فيكون هو المنطق الإنساني في أكثر الخلاف الإنساني: تقوم به الحجة، فتلزم وإن أنكرها المنكر،