شيء غير النقد؛ كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهم: أنت كلمتي فقل كلمتك..
وترى الجمال حيث أصبته شيئًا واحدًا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وها هنا يتأله الأدب؛ فهو خالق الجمال في الذهن، والممكن للأسباب المعينة على إدراكه وتبين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية والجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة وصولة الغريزة وغرارة الطبع الحيواني.
وإذا كان الأمر في الأدب على ذلك؛ فباضطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دربة لإصلاحها وإقامتها، لا لإفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة؛ وباضطرار أن يكون الأديب مكلفًا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات؛ ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق!
وإنما يكلف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدم النظر وتسقط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره؛ ولا يعني بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه؛ ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم؛ يسدد على كل ذلك رأيه، ويجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، وينفذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفي في الإنسان يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى، وهل يخلق العبقري إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل، فيستمر دائبًا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟
فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته فإذا وقائع الحياة في حذو واحد من النزاع والتناقض، وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك في نفس الأديب اتجهت هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير