وليست تتصل هذه القوة إلا بتركيب عصبي تكون فيه الخصائص التي تصلح أن تتلقى عنها، وهي في العبقريين خصائص مرضية في الأعم الأغلب، بل لعلها كذلك دائما؛ ليتسرَّ بها العبقري لحالة خفيفة من الموت ... يحمل بها كده وتعبه وما يعانيه من مضض الفكر وثقلته؛ ثم لتكون هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبين عالم الغيب منه؛ فالتركيب العصبي في دماغ العبقري إنسان على حياله مع إنسان آخر، أحدها لما في الطبيعة والثاني لما وراء الطبيعة؛ ومن ثم كان الرجل من هذه الفئة كالمصباح: يتقد وينطفئ؛ لأنه آلة نور تعرض لها العلل فتذهب بقدرتها عليه، وتنضب مادة النور منها، فكذلك لا تقدر عليه، وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب ليس منها ولا من نورها، وهي على كل هذه الأحوال لا تملك منها حالة؛ فبينما العبقري الذي يملأ الدنيا من آثاره النابغة، تراه في حالة من أحواله يدأب لا يأتلي فيجد في العمل ويبذل الوسع فيه ويصبر على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض به فيضا وكأن في طبيعة الربيع المتفتح طول أيامه بالجمال - إذا هو في حالة أخرى يتلكأ ويتربص لا يعمل شيئا كأنما دخل في قريحته الشتاء، وفي ثالثة يتباطأ ويتلبث فلا يعنُّ له جديد كأنما حبس عنه فكره أو نبا طبعه أو هو في قيظ طبيعته وخمولها وضجرها؛ ثم لا تمضي على ذلك إلا توَّةٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر ... وإذا هو منبعث ملء القوة والنشاط؛ وربما يأخذ في غرض من الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له المادة، فلا يكاد يمضي لنحو منه حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فإذا هو يكتب ما لا يستملي؛ وقد يبتدئ معنى ثم يقطع عنه بطارئ من عمل أو حديث، ثم يعاوده فإذا هو معنى آخر وإذا جهة من الفكر هي جهة الإبداع والاختراع في موضوعه، وإذا هو إنما كان يجر بذلك الصارف عن معناه الأول جرًّا ليدعه إلى الأكمل والأصح، وأيقن أنه لو كان استوفى على ما بدأ لأسف وضعف وجاء بما غيره أقدر عليه؛ كأن هذه القوة الخفية التي تلهمه تنقح له أيضًا بأساليبها الغريبة؛ وقد يكون آخذًا في عمله ماضيًا على طبعه مسترسلًا إلى ما ينكشف له من أسرار المعاني ثقفًا من هنا لقفًا من هناك*، ثم ينظر فإذا هو قد مسح لوح خياله، ويطلب المعنى فلا يتاح له، ويتمادى فلا يزيد إلا كدًّا وعسرا كأنما ذهب إلهامه في غمض من غموض
* يقال: هو ثقف لقف: أي سريع الفهم لما يلقى إليه، ولكنا استعملناه كما ترى فجاء أشد تمكنًا من أصله.