ولقد كنت في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففر إلى ربوة عالية, في رأسها عقل لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حرقتي بالهوى وارتماضي من الحب.
أما والله, إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق.
هي الطبيعة, بجبروتها، وعسفها، وتعنتها. إذا استراح الناس جميعًا قالت للعاشق: إلا أنت!
إذا عقل الناس جميعًا قالت في العاشق: إلا هذا.
إذا برأت جراح الحياة كلها قالت: إلا جرح الحب!
إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا هم العشق!
إذا تغير الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو!
إذا انكشف سر كل شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجب بأسرار القلب!
ولما رأيتها أول مرة، ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المُسْكِر، الذي تُعربد له الروح عربدة كلها وقار ظاهر. فرأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعبّ ويجري.
وكنت أُلَقَّى خواطر كثيرة، جعلتْ كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد فاضت وازدحمت في ذلك الموضع تجلس فيه، فما شيء يمر به إلا مسته فجعلته حيا يرتعش، حتى الكلمات.
وشعرتُ أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرق رقة نسيم السَّحَر، كأنما انخدع فيها فحسب وجهها نور الفجر!
وأحسست في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثرًا حول هذه الفَتَّانة، كأنها محدودة بي من كل جهة.
وخيل إلي أن النواميس الطبيعية قد اختلت في جسمي إما بزيادة وإما بنقص؛ فأنا لذلك أعظم أمامها مرة، وأصغر مرة.