للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السياسة على كل شيء حتى أصبحت هذه الحقائق الإنسانية جغرافية، لها شعوب ولها مستعمرات؛ فالإخاء في الغرب سيادة في الشرق، والمساواة هناك امتياز هنا، والحرية في مملكة استعباد لمملكة، والتحية في موضع صفعة في موضع والضيافة في مكان استئكال في مكان؛ {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ١١٨، ١١٩] فلن يتصل الناس بالروح الأعلى إلا من الجهة الواحدة التي لم تتغير ولن تتغير فيهم، جهة الدموع التي لا تختلف في أسود ولا أحمر، والتي لا تنبعث إلا من الرقة والوجد والأحزان والآلام، وهي بذلك نسب كل قلب إلى كل قلب، فلو غمر العالم كله بلاء واحد لا تحرز منه أرض أهلها ولا تتحاجز الأمم فيه، لاستلب مطامع الناس بعضهم في بعض، وأرجع الإنسانية الزائغة إلى مستقرها، فتجردوا من الدنيا وهم في الدنيا، فاتصلوا باللانهاية وهم في النهاية؛ فإن لم يكن بلاء عام ففكر عام في بلاءٍ يميت الشهوات المتطلقة ويكون كالداء تلبس بالجنس الإنساني كالذي تصفه الأديان من جهنم والمصير إليها والحساب عندها والجزاء على الشر بها، حتى لا تبقى نفس إلا وهي في وثاق من حلالها وحرامها، ولا يبقى شر يتخيل أو يشتهى إلا وهو كالمتاع النفيس بين أربعة جدران تتساقط وتحترق لا يجد في كل اللصوص لصًّا، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فالحب العام حتى لا يبقى جيش ولا سلاح ولا سياسة ولا دول، ولا تكون الممالك إلا بيوتًا إنسانية بين الواحدة والكل من الشابكة واللحمة ما بين الكل والواحدة، وحتى تقول مصر لانجلترا: يا بنت عمي ... فإن استحال كل هذا فالحرية العامة على أن تكون محدودة من كل جهاتها بالشعر، وعلى أن يكون الشعر محدودًا بالطبيعة والطبيعة محدودة بالله، فينتزع النوم من الأرض لتتصل اليقظة بالحلم ... من طريق غير النوم.

قال شيطان طاغور: ثم ابتأس طاغور وقال: كل ذلك مستحيل أو كالمستحيل ولكنه في الأمل ممكن أو كالممكن؛ وللفظ معنيان: أحدهما ما يكون، والثاني ما يحسن أن يكون؛ ذلك لا بد له منا؛ لأنه جانب النظام الإلهي، وهذا لا بد لنا منه؛ لأنه جانب الخيال الإنساني؛ ذلك من الطبيعة التي تعمل ولا تتكلم، وهذا من الشعر الذي يتكلم ولا يعمل. آه آه! إنما السلام العام أن يكون الوجود شركة إلهية إنسانية برضى واتفاق بين الطرفين ... ولعمري إن كل المستحيلات ممكنة بالإضافة إلى هذا المستحيل. ثم تبسم طاغور إذ خطر له أنه شاعر عليه أن يصف الوردة ويقول فيها ما يجعلها بيت شعر في كتاب الطبيعة له

<<  <  ج: ص:  >  >>