وكان "مصباح الشرق" قد نشر قصيدة رائية لابن الرومي، فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة ابن الرومي في قوافيه، فقال له "حافظ": هلم نتساجل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا؛ وكانت القافية من وزن: قدرها، أحمرها، أخضرها ... الخ، وجعلت أنا أحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلًا ثم ينطق باللفظ، ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيرًا وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب.
أما في النوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة ١٩١٢ ومديرها يومئذ المرحوم "محمد محب باشا" وكان داهية ذكيًا وظريفًا لبقًا، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا "حافظ" إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ، قال: وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة!
فتهلل حافظ وقال: نعم، لك عليَّ ذلك، ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهمًا، فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط؛ وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك، فيسرع حافظ ويغالط بفمه ...
ولكن هذه المضحكات أضحكت من "حافظ" مرة كما أضحكت به؛ فلما كان يترجم "مكبث" لشكسبير -وهي كأعماله الناقصة دائمًا- دعوه لإلقاء محاضرة في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حمية وعلمًا وكان صاحب السر فيه "السكرتير" زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي؛ فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظمًا عن شكسبير، ومثله تمثيلًا أفرغ فيه جهده، فأطرب وأعجب: ثم سألوه المحاضرة فأخذ يلقي عليهم من نوادره، وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم ...
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها ... وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح!
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه "حافظ" إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد؛ ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى