الكلمة، بل هو أبعد الأشياء عن هذا المعنى؛ فإنك لا تجد في كتاب من هذه الكتب إلا التأليف الذي بين يديك، أما المؤلف فلا تجده ولا تعرفه منها إلا كالكلمة المحبوسة في قاعدة.. وكأنه لم يكن فيه روح إنسان بل روح مادة مصمتة، وكأنه لم ينشأ ليعمل في عصره بل ليعمل عصره فيه، وكأن ليس في الكتاب جهة إنسانية متعينة، فثم تأليف ولكن أين المؤلف؟ وهذا كتاب ابن قتيبة، ولكن أين ابن قتيبة فيه؟
وما أخطأ المتقدمون في تسميتهم هذه الكتب أدبًا؛ فذلك هو رسم الأدب في عصرهم، غير أن هذا الرسم قد انتقل في عصرنا نحن، فإنا نحن المخطئون اليوم في هذه التسمية، كما لو ذهبنا نسمي الجمل في البادية "الإكسبريس"، والهودج عزبة "بولمان".
ومن هذا الخطأ في التسمية ظهر الأدب العربي لقصار النظر كأنه تكرار عصر واحد على امتداد الزمن، فإن زاد المتأخر لم يأخذ إلا من المتقدم؛ وصارت هذه الكتب كأنها في جملتها قانون من قوانين الجنسية نافذ على الدهر، لا ينبغي لعصر يأتي إلا أن يكون من جنس القرن الأول.
هذه الكتب من هذه الناحية كالخل: يسمَّى لك عسلًا ثم تذوقه فلا يجني عليه عندك إلا الاسم الذي زور له؛ أما هو فكما هو في نفسه وفي فائدته وفي طبيعته وفي الحاجة إليه، لا ينقص من ذلك ولا يتغير.
الحقيقة التي يعينها الوضع الصحيح أن تلك المؤلفات إنما وضعت لتكون أدبًا، لا من معنى أدب الفكر وفنه وجماله وفلسفته، بل من معنى أدب النفس وتثقيفها وتربيتها وإقامتها، فهي كتب تربية لغوية قائمة على أصول محكمة في هذا الباب، حتى ما يقرؤها أعجمي إلا خرج منها عربيًّا أو في هوى العربية والميل إليها؛ ومن أجل ذلك بنيت على أوضاع تجعل القارئ المتبصر كأنما يصاحب من الكتاب أعرابيًّا فصيحًا يسأله فيجيبه، ويستهديه فيرشده؛ ويخرجه الكتاب تصفحًا وقراءة كما تخرجه البادية سماعًا وتلقينًا، والقارئ في كل ذلك مستدرج إلى التعريب في مدرجة مدرجة من هوى النفس ومحبتها، فتصنع به تلك الفصول فيما دبرت له مثلما تصنع كتب التربية في تكوين الخلق بالأساليب التي أديرت عليها والشواهد التي وضعت لها والمعالم النفسية التي فصلت فيها ومن ثم جاءت هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد لا يختلف في الجملة فهي أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيق وتمحيص، وإنما تتفاوت بالزيادة والنقص والاختصار