كان من أثر ذلك في طباعه أن اعتاد التفكير وطول الصمت فلا يقول قولًا إلا بعد تدبر وفكر طويل، فإن لم يهتد إلى شيء قال: لا أدري، وكثيرًا ما كان يسأل في المسألة فلا يجيب إلا بعد أيام.
وكان ورعًا قوي الإيمان، انتهى به إيمانه وعلمه وتقواه إلى أن صار أستاذ الخليفة المقتفي لأمر الله، فاختص بإمامته في الصلوات، وقرأ عليه المقتفى شيئًا من الكتب، وانتفع بذلك وبان أثره في توقيعاته كما قالوا.
والذي يتأمل هذا الشرح فضل تأمل يرى صاحبه كأنما خلقه الله رجل إحصاء في اللغة، لا يفوته شيء مما عرف إلى زمنه، وهو ولا ريب يجري في الطريقة الفكرية التي نهجها ابن جني وشيخه أبو علي الفارس؛ ومن أثر هذه الطريقة فيه أنه لا يتحجر ولا يمنع القياس في اللغة، ويلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب، ويروي ذلك جميعه ويحفظه ويلقيه على طلبته؛ ومن أمتع ما جاء من ذلك في شرحه قوله في صفحة ٢٣٥، وهو باب لم يستوفه غيره ولا تجده إلا في كتابه، وهذه عبارته:
قولهم: يدي من ذلك فعِلة: المسموع منهم في ذلك ألفاظ قليلة، وقد قاس قوم من أهل اللغة على ذلك فقالوا: يدي من الإهالة سنخة، ومن البيض زهمة، ومن التراب تربة، ومن التين والعنب والفواكه كتنة وكمدة ولزجة، ومن العشب كتنة أيضًا، ومن الجبن نسمة، ومن الجص شهرة، ومن الحديد والشبهة والصفر والرصاص سهكة وصدئة أيضًا، ومن الحمأة ردغة ورزغة، ومن الخضاب ردعة، ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة، ومن الخل والنبيذ خمطة، ومن الدبس والعسل دبقة ولزقة أيضًا، ومن الدم شحطة وشرفة ومن الدهن زنخة، ومن الرياحين ذكية، ومن الزهر زهرة، ومن الزيت قنمة، ومن السمك سهكة وصمرة، ومن السمن دسمة ونمسة ونمسة، ومن الشهد والطين لثقة، ومن العطر عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الغسلة والقدر وحرة، ومن الفرصاد قنئة، ومن اللبن وضرة، ومن اللحم والمرق سمرة، ومن الماء بللة وسبرة، ومن المسك ذفرة وعبقة، ومن النتن قنمة، ومن النفط جعدة. انتهى.
فالمسموع من هذه الألفاظ عن العرب لا يتجاوز سبعًا فيما نرى، والباقي كله أجراه علماء اللغة وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس منها أربعًا وثلاثين كلمة: ولو تدبرت كيفية استخراجها ورجعت إلى الأصول التي أخذت