وهذه هي لغة الشعر بخاصته؛ ولا بد أن ننبه هنا إلى معنى غريب، وذلك أنك تجد بعض النظامين يحسنون من اللغة وفنون الأدب، فإذا نظموا وخلا نظمهم من روح الشعر- ظهرت الألفاظ في أوزانهم وكأنها فقدت شيئًا من قيمتها، كأن موضعها ثم هو الذي أعلن إفلاسه؛ إذ أقام مقام الذي يريد أن يعطي ثم هو إذا وقف لا يصنع شيئًا إلا أن يعتذر بأنه لم يجد ما يعطيه.. فهذا كان رجلًا من الناس، وكان في ستر وعافية، فلما وقف موقفه انقلب مدلسًا كاذبًا مدعيًا فاختلفت به الحال وهو هو لم يتغير.
وما الأسلوب البياني إلا وسيلة فنية لمضاعفة التعبير، فإن لم يكن هذا ما يعطيه كان وسيلة فنية أخرى لمضاعفة الخيبة؛ وهذا ما تحسه في كثير من شعر النظامين أو البديعيين في العصور الميتة، وتحسه في الشعر الميت الذي لا يزال ينشر بيننا.
وعلي طه إذا حرص على أسلوبه وبالغ في إتقانه واستمر بجريه على طريقته الجيدة متقدمًا فيها، متعمقًا في أسرار الألفاظ وما وراء الألفاظ، وهي تلك الروعة البيانية التي تكون وراء التعبير وليس لها اسم في التعبير، معتبرًا اللغة الشعرية -كما هي في الحقيقة- تأليفًا موسيقيًا لا تأليفًا لغويًا.. فإنه ولا ريب سيجد من إسعاف طبعه القوي، وعون فكره المشبوب، وإلهام قريحته المولدة- ما يجمع له النبوغ من أطرافه، بحيث يعده الوجود من كبار مصوريه، وتتخذه الحياة من بلغاء المعبرين عنها في العربية؛ ومن ثم تنظمه العربية في سمط جواهرها التاريخية الثمينة، ويصله السلك بشوقي وحافظ والبارودي وصبري، إلى المتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام، إلى ما وراء ذلك، إلى الجوهرة الكبرى المسماة جبل النور البياني، إلى امرئ القيس.
وليس هذا ببعيد على من يقول في صفة القلب:
يا قلب عندك أي أسرار ... ما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النار ... أقلقت جسم الكائن الحي
حملته العبء الذي فرقت ... منه الجبال وأشفقت رهبًا
وأثرت منه الروح فانطلقت ... تحسو الحميم وتأكل اللهبا