"جوابها ظاهر على من طالع المقاصد الثلاثة وجواب المغالطة الأولى، فإذا وقع التحريف بالفعل بإقرارهم فأي محل لعدم إمكانه، وقياس هذه الكتب على القرآن المجيد قياس مع الفارق؛ لأن هذه الكتب قبل إيجاد صنعة الطبع كانت قابلة للتحريف، وما كان اشتهارها بحيث يكون مانعاً عن التحريف، ألا ترى كيف حرف اليهود وملحدو المشرق على ما أقرت به فرقة البروتستنت وفرقة الكاثلك الترجمة اليونانية، مع أن اشتهارها شرقاً وغرباً كان أزيد من اشتهار النسخة العبرانية، وكيف أثر تحريفهم وهذا بخلاف القرآن المجيد فإن اشتهاره وتواتره كانا في كل قرن من القرون مانِعَيْن عن التحريف، والقرآن في كل طبقة كما كان محفوظاً في الصحائف فكذا كان محفوظاً في صدور أكثر المسلمين، ومن كان شاكاً في هذا الباب فليجرب في هذا الزمان أيضاً لأنه لو رأى المجرب في الجامع الأزهر فقط من جوامع مصر وجد في كل وقت أكثر من ألف شخص يكونون حافظين للقرآن كله على سبيل التجويد التام، ووجد كل قرية صغيرة من قرى الإسلام من مصر لا تخلو عن الحفاظ، ولا يوجد في جميع ديار أوربا في هذه الطبقة من المسيحيين مع فراغ بالهم وتوجههم التام إلى العلوم والصنائع وكونهم أكثر من المسلمين عدداً عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي عدد الحفاظ الموجودين في الجامع الأزهر فقط، بل لا يكون عددهم في جميع ديار أوربا يبلغ عشرة، ويؤكد أنهم ما سمعوا أحداً أيضاً يكون حافظاً لجميع الإنجيل فقط في هذه الطبقة فضلاً أن يكون حافظاً للتوراة وغيره أيضاً، فجميع ديار أوربا من المسيحيين في هذا الباب ليسوا في مقابلة قرية صغيرة من قرى مصر، وليس الكبار من القسيسين في هذا الأمر خاصة في مقابلة الحمارين والبغالين من أهل مصر، وكان عُزَيْزالنبي عليه
السلام يُمْدَحُ بحفظ التوراة في أهل الكتاب، ويوجد في الأمة المحمدية في هذه الطبقة أيضاً مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن في جميع ديار الإسلام، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكتابهم، وهذا الأمر أيضاً معجزة لنبيهم ترى في كل طبقة من الطبقات".
ثم ذكر (حكاية) يعضد بها قوله: جاء يوماً أمير من أمراء الإنكليز في مكتب في بلدة سهار تفور من بلاد الهند ورأى الصبيان مشتغلين بتعلم القرآن وحفظه، فسأل المعلم: أي كتاب هذا. فقال: القرآن المجيد، فقال الأمير: أحفظ أحد منهم القرآن كله؟ ، فقال المعلم: نعم، وأشار إلى عدة منهم فلما سمع استبعد فقال: اطلب واحداً منهم وأعطني القرآن أمتحن، فقال المعلم: اطلب أيهم شئت فطلب واحداً منهم كان ابن ثلاثة عشرة أو أربعة عشرة وامتحنه في مواضع فلما تيقن أنه حافظ لجميع القرآن تعجب، وقال: أشهد أنه ما ثبت تواتر لكتاب من الكتب كما ثبت للقرآن، يمكن كتابته من صدر صبي من الصبيان مع غاية صحة الألفاظ، وضبط الأعراب.
شبهات وردود: كيف ضاعت النسخ وكيف حدث التحريف!
ثم أورد أموراً يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم في نظرهم (الأمر الأول) كان موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار وسائر كبراء بني إسرائيل وأوصاهم بمحافظتها ووضعها في جنب صندوق الشهادة وإخراجها إلى الناس بعد كل سبعة سبعة من السنين في يوم العيد لأجل سماع بني إسرائيل، فكانت هذه النسخة موضوعة في جنب الصندوق وكانت الطبقة الأولى على وصية موسى عليه السلام، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل فكانوا يرتدون تارة ويُسْلمون أخرى، وهكذا كان حالهم إلى أول سلطنة داود عليه السلام، وحسنت حالهم في تلك السلطنة وصَدْرَ سلطنة سليمان عليه السلام