للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صغيرة، ولما دخلت الجيوش الإنجليزية في هذه القرية، أخذ المنجل ودخل في مزرعة وتشاغل بحصاد الحقل، كفلاح صغير مغمور، واستطاع بذلك أن ينجو بنفسه، ويصل إلى ((سورت)) ميناء الهند، ويهاجر إلى البلاد المقدسة، وكان ذلك في سنة ١٨٦٢ م يعني بعد الثورة بخمس سنوات، وصودرت أملاكه التي كانت كبيرة وواسعة، وبيعت بالمزاد العلني، وكان ذلك في أيام خلافة السلطان عبد العزيز العثماني، وإمارة عبد الله بن عون، ولما عرفت منزلته في مكة، وبلاؤه في الدفاع عن الإسلام، سمح له بالتدريس في الحرم المكي وتوثقت بينه وبين عالم مكة الجليل الشيخ أحمد بن زيني دحلان الصداقة، وهو الذي كان له الفضل في التعريف به عند شريف وعلماء مكة وأعيانها (١).

وسجل اسمه في السجل الرسمي لعلماء الحرم عام ١٨٨٥ م. أسس أول مدرسة في مكة والحجاز، وسميت عام ١٨٩١ م باسم المدرسة الصولتية (٢)، "وبقي الشيخ مديرا ومدرسا فيها إلى وفاته عام ١٨٩١ م ودفن في مقبرة مكة رحمه الله" (٣).

بعد تأليف ((إظهار الحق)) (٤)

عاد الشيخ رحمة الله إلى مكة المكرمة، واشتغل بالتدريس في الحرم الشريف وبداره، ولم يكن التعليم في أرض الحرم مرتَّبًا منظما بل كان مقتصرا على حلقات العلماء بدون تنظيم ولا منهج، ومن غير شك كانت الخلافة العثمانية تبذل أموالا طائلة لعلماء المسجد الحرام ولطلاب العلم، ولكن لم تكن هناك مدرسة نظامية تعتني بأبناء مكة والمهاجرين من حيث التعليم والتربية، وكان شديد التألم من رداءة حالة التعليم وضياع أبناء المسلمين، فقام اعتمادا على الله بفتح وتأسيس أول مدرسة في ربيع الأول عام ١٢٨٥ هـ على نفقته الخاصة بمحلة الشامية، بدار أمراء الهند المهاجرين، المعروفة بدار السقيفة عند مطلع جبل هندي بالشامية، عرفت بالمدرسة الهندية أو مدرسة الشيخ رحمة الله، ونظرا لضيق المكان لم يستطع الشيخ تنظيم المدرسة، كما كان يتمناها ويريدها، إلى أن قدمت فريضة الحج عام ١٢٨٩ هـ إحدى أميرات الهند، ... وكانت تنوي بعد الحج بناء رباط في مكة، كما هي عادة أهل الخير في أراضي الحرمين الشريفين، وكانت على علم تام بشهرة الشيخ رحمة الله وجهاده في الهند، فاستشارته في إقامة عمارة للفقراء، فأخبرها الشيخ أن مكة المكرمة ليست بها مدرسة تتكفل بتعليم أبناء المسلمين، وأخبرها عن مدرسته، فوافقت على إنشاء مدرسة، وفوضت الأمر إلى الشيخ، وسبحان الله مسبب الأسباب؛ فقد اشترت الأرض في حي الخندريسة بمحلة الباب، ووضع الشيخ رحمة الله بيده المباركة حجر الأساس لأول مدرسة دينية نظامية تحت ظل البيت العتيق صباح يوم الأربعاء الموافق ١٥ شعبان عام ١٢٩٠ هـ.

شهدت هذه البلدة المقدسة ميلاد أول مدرسة ببدء الدراسة فيها في احتفال كبير حضره جميع علماء وأعيان مكة وطلاب العلم، بفضل هذه المحسنة، وتخليدا لذكرها فقد أطلق الشيخ اسم: الصولتية على المدرسة، نسبة إلى السيدة صولت النساء، ولم ينسبها إلى نفسه فأصبحت هذه المدرسة مركزا للطلاب من كل حدب، ومنبعا للعلوم والمعرفة، وهي أول مدرسة نظامية على الإطلاق وبالاتفاق في الجزيرة العربية، تأسست


(١) مقدمة أبي الحسن الندوي، إظهار الحق، (الدوحة، قطر، دار إحياء التراث الإسلامي، ط ١، ١٩٨٠)، ص ٩ (بتصرف يسير).
(٢) نسبة إلى المرأة الهندية المتبرعة ببنائها واسمها صولت النساء.
(٣) انظر: إظهار الحق، تحقيق: د. عبد القادر ملكاوي، جزء التحقيق.
(٤) نتحدث عن الكتاب -لاحقا- إن شاء الله تعالى- تفصيلا.

<<  <   >  >>