ويبدو من هذه الأمثلةِ أنهم لا يشترطونَ أكثرَ منْ هذا؛ أي أنهم يَكْتَفُونَ بهذا النَّقلِ أو السَّماعِ من العربيِّ الواحدِ.
* وفيما يتعلقُ بالنَّصِّ على لغاتِ العربِ الواردة في القرآن، يلاحظ: أنَّ الواردَ عنِ السَّلفِ أكثرُ منَ الواردِ عنِ اللُّغويِّينَ، مع أنَّ هذا المجالَ مما كانوا يعتنون به.
* كما يظهرُ منَ الأمثلةِ الواردةِ عنِ السَّلفِ أنَّهم يُعْنَونَ بصحَّةِ المعنى في السِّياقِ، وأنَّه لا يلزمُ منْ صِحَّتِهِ لُغَةً صِحَّةُ التَّفسيرِ به، وهذا الأمرُ بَيِّنٌ وظاهرٌ في المثالِ الواردِ عنِ ابنِ مسعودٍ (ت:٣٥) في قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}[المطففين: ٢٦]، حيثُ نفى أنْ يكونَ المرادُ بالخِتَامِ الخاتمَ الذي يَخْتِمُ، مع صِحَّةِ إطلاقِ هذا المعنى المنفيِّ لغةً.
وكذا ما وردَ من استدراكِ خالدِ بنِ صفوان، واستدراكِ حُمَيدٍ الحِمْيَرِيِّ (١) على الحسنِ البصريِّ (ت:١١٠) في تفسيره لفظَ «سريًّا» بأن المقصودَ به عيسى؛ أي أنه سيدٌ شريفٌ. فقالا للحسنِ: إنَّ العربَ تُسمِّي الجَدْوَلَ: السَّريَّ، فأجابَ الحسنُ (ت:١١٠) بقوله: «صدقت»، وهذا يُشْعِرُ بعدمِ قبولهما تفسير الحسنِ (ت:١١٠)، وإنْ كانَ ما قالَهُ منْ حيثُ اللُّغةِ صحيحاً، إلاَّ أنَّ تفسيرَهما أنسبُ لسياقِ الآيةِ؛ لقوله تعالى:{فَكُلِي وَاشْرَبِي}[مريم: ٢٦]؛ أي: كُلِي منَ الرُّطَبِ واشربي من السَّرِيِّ؛ أي: النَّهْر، والله أعلم.
* أنَّ السَّلفَ كانوا يجتهدونَ في اختيارِ المعنى اللُّغويِّ المناسبِ إذا كانَ للَّفظِ المفسَّرِ أكثرُ منْ دلالةٍ، وهذا ظاهرٌ في الأمثلةِ السَّابقةِ.
ويلاحظ أنَّ هذا الاجتهادَ في التَّفسيرِ كانَ في طبقاتِ السَّلفِ الثَّلاثِ: الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِ التَّابعينَ، ولو كانوا أخذوا ما عند الصَّحابةِ ولم يتعدَّوه، لتوقَّفَ الاجتهادُ في علمِ التَّفسيرِ، والله أعلم.
(١) حميد بن عبد الرحمن الحِمْيَري، البصري، ثقة فقيه، ينظر: طبقات ابن سعد (٧:١٤٧)، وتقريب التهذيب (ص:٢٧٥).