للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَنْزِلَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُلْقِيَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُطْبُ الرازي فِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ: الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ أَنْ يَتَلَقَّفَهَا الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَيَنْزِلَ بِهَا فَيُلْقِيَهَا عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَقَدْ سَأَلْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ محيي الدين الكافيجي عَنْ كَيْفِيَّةِ التَّلَقُّفِ الرُّوحَانِيِّ فَقَالَ لِي: لَا يُكَيَّفُ. وَقَالَ الزركشي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلِ قَافٍ.

وَالثَّانِي أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤] .

وَالثَّالِثُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١] يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّا أَسْمَعْنَاهُ الْمَلَكَ وَأَفْهَمْنَاهُ إِيَّاهُ، وَأَنْزَلْنَاهُ بِمَا سَمِعَ، فَيَكُونُ الْمَلَكُ هُوَ الْمُنْتَقِلَ بِهِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلُ، قَالَ أبو شامة: وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي جِبْرِيلَ الْوَحْيَ، وَحَاصِلُ مَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ أُلْهِمَهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حَفِظَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَوْلُ التَّلَقُّفِ الرُّوحَانِيِّ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْإِلْهَامُ، فَلَا يَكُونُ قَوْلًا رَابِعًا، وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أبو إسحاق إسماعيل البخاري الصفار عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ جِبْرِيلَ إِلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، هَلْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى جُمْلَةً أَمْ جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ قَالَ: كِلَا الْوَجْهَيْنِ جَائِزٌ، وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَدْرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّعَ جِبْرِيلَ كُلَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْلَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى السَّفَرَةِ - وَهُمْ مَلَائِكَةٌ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا - لِكَيْ لَا يَكُونَ لَهُمُ احْتِيَاجٌ حِينَ أَسْمَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ أبو الليث فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: ٨] وَقَالَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: جَاءَ بِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ نُجُومًا [نُجُومًا] . وَذَكَرَ الدينوري أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ جُمْلَةً ثُمَّ نَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

<<  <  ج: ص:  >  >>