أُمَمِهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمُ اتِّبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ؛ وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَا كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَأْتِيَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ اتِّبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَانِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ - كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إِلَى أُمَمِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ، هَذَا كَلَامُ السبكي [بِحُرُوفِهِ] ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِ يَنْزِلُ مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ بَاقِيًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ زَاعِمٌ: الْوَحْيُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مُؤَوَّلٌ بِوَحْيِ الْإِلْهَامِ. قُلْتُ: قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِدَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِدَلِيلٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فَهُوَ لَعِبٌ بِالْحَدِيثِ.
قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا وَحْيَ بَعْدِي» " قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ.
قَالَ زَاعِمٌ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ " «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " قُلْنَا: يَا مِسْكِينُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ بَعْثُ نَبِيٍّ بِشَرْعٍ يَنْسَخُ شَرْعَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الزَّاعِمِ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، فَيَلْزَمُكَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ نُزُولِ عِيسَى، أَوْ نَفْيُ النُّبُوَّةِ عَنْهُ وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ؟ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ كِتَابَتِي لِهَذَا الْجَوَابِ وَقَفْتُ عَلَى سُؤَالٍ رُفِعَ إِلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابن حجر، صُورَتُهُ: مَا قَوْلُكُمْ فِي قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا» . فَهَلْ يَنْزِلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عَنْ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَجْتَهِدُ فِيهَا؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: لَمْ يُنْقَلْ لَنَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَالَّذِي يَلِيقُ بِمَقَامِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَحْكُمُ فِي أُمَّتِهِ بِمَا تَلَقَّاهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلِيفَةٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute