للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: زِنَةَ عَرْشِهِ مَا يُوَازِنُهُ فِي الْقَدْرِ، يُقَالُ: هُوَ زِنَةَ الْجَبَلِ أَيْ حِذَاؤُهُ فِي الثِّقَلِ وَالْوِزَانَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ إِيمَاءٌ إِلَى تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَقَدْ خَرَّجُوا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ ; رُوِيَ أَنَّ معاوية اسْتَعْمَلَ ابْنَ أَخِيهِ عمرو بن عتبة بن أبي سفيان عَلَى صَدَقَاتِ كَلْبٍ، فَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ابن العداء الكلبي:

سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَنَدًا ... فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ

قَالَ ابن الأثير فِي " النِّهَايَةِ ": نَصَبَ عِقَالًا عَلَى الظَّرْفِ أَرَادَ مُدَّةَ عِقَالٍ وَالْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامٍ. وَقَالَ ابن يعيش فِي " شَرْحِ الْمُفَصَّلِ ": مِنَ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِ قَوْلُهُمْ سِيرَ عَلَيْهِ تَرْوِيحَتَيْنِ، وَانْتُظِرَ بِهِ نَحْوَ جَزُورَيْنِ، وَالْمُرَادُ مُدَّةَ ذَلِكَ، وَالتَّرْوِيحَتَيْنِ تَثْنِيَةُ التَّرْوِيحَةِ، وَاحِدَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ أبو البقاء فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ» " أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، أَيْ مُدَّةَ نَشَاطِهِ، فَحَذَفَهُ وَأَقَامَ الْمَصْدَرَ مَقَامَهُ. وَقَالَ الأشرقي فِي " شَرْحِ الْمَصَابِيحِ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَشَاطَهُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي نَشِطَ لَهَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي نَصْبِهِ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ؟

قُلْتُ: هَذَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ، وَأَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ " سُبْحَانَ " أَوْ لِمُقَدَّرٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْصُوفِهِ بِقَوْلِهِ وَبِحَمْدِهِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ مَمْنُوعٌ، مَعَ أَنَّ عِنْدِي فِي جَوَازِ وَصْفِ سُبْحَانَ وَقْفَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا عَلَمًا لِلتَّسْبِيحِ مَنْصُوبًا وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ التَّقْدِيرَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَسْبِيحًا زِنَةَ عَرْشِهِ فَفِيهِ وَقْفَةٌ مِنْ وُجُوهٍ ; الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَقْدِيرُ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يُصَرَّحُ بِهِ فِي اللَّفْظِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ آخَرَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، فَإِذَا قُدِّرَ مَصْدَرٌ آخَرُ لَزِمَ مِنْهُ تَقْدِيرٌ لِثَلَاثَةٍ: فِعْلِ الْمَصْدَرِ الظَّاهِرِ، وَالْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ، وَفِعْلٍ آخَرَ لَهُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ لَا يَنْصِبُ مَصْدَرَيْنِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَيْسَ نَفْسَ الزِّنَةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ زِنَةِ عَرْشِهِ، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى تَقْدِيرِ مِثْلَ، فَالْمُرَادُ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمِقْدَارِ، فَرَجَعَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ خُصُوصًا أَنَّ قَوْلَهُ: " رِضَا نَفْسِهِ " لَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ ; وَلِهَذَا قَالَ الأشرقي: يُسَاوِي خَلْقَهُ عِنْدَ التَّعْدَادِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَيُوجِبُ رِضَا نَفْسِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الْمُسَاوَاةِ، وَتَقْدِيرُ " قَدْرَ " صَحِيحٌ فِيهِ، أَيْ قَدْرًا يَبْلُغُ رِضَا نَفْسِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>