للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

- ٢٣٥ -

[السن الخطباء تحيي وتميت]

حكمة اذا عقلت معناها. وقفت على سر الخطابة وحكمة حدوثها وعلمت انها للعقول بمنزلة الغذاء للبدن وكانت الخطابة في الاعصر الخالية غير معلومة الا في امتي العرب واليونان فكانت ساحتها في جزيرة العرب عكاظاً ومنابرها ظهور الابل. وهذه الساحة كانت معرضاً للافكار تجتمع فيها الخطباء والبلغاء والشعراء وامم كثيرة من المجاورة للجزيرة فيرقي الخطيب ظهر ناقته ويشير بطرف ردائه وينثر على الاسماع درراً وبدائع ثم يباريه اخر ويعارضه غيرة فتتضارب الافكار وتتنبه الاذهان وتحيي الهمم وتتحرك الدماء ويرجع كبار القبائل وامرائها لما يشير اليه الخطيب ان صلحا وان حرباً. ولم يقتصروا في خطاباتهم على مسائل الحرب والصلح بل كانوا يخوضون بحار الافكار فلا يتركون ملمة الا شرحوها ولا يذرون فضله الا حثوا عليها حتى انهم كانوا يحفظون اسماء الحكماء منهم واهل الماثر فيذكرونهم في كل عام في هذا المعرض احياء لتذكارهم وتخليداً لاسمائهم لئلا يجهل الاتي سيرة الماضي فتفتر الهمم وتخمد الدماء وتتغير الطباع. وفي غير المعرض كان كل متكلم خطيباً في ناديه يحض ويحذر ويحرض ويحمس ويامر وينهي واذا نابهم امر رجعوا الى كبار القبائل ومشايخها وتذاكروا فيه مذاكرة النبهاء وسلموا افكارهم لحكم الشورى ليظهر من سر الاجتماع وهيئة الاتحاد رأي يحكم للجميع سطوتهم ويقوي استقلالهم ويزيد في نفوذهم فاذا نشر على عامة القوم رايتهم سراعاً لسماع الحكم طائعين لما ابدته حكمة الاجتماع لا طاعنين ولا مقترحين امراً فان كان الاجتماع لرد باغ رايته اطوع الامة من القلب للكاتب وان كان الحكم باعدامه واخماد انفاسه. وان كان لجمع سلاح وكراع واعداد افراس ورماح رأيت الغني المتبرع بنصف ماله والكريم المتفضل بحلبة افراسه والمثري المهدي ما يمتلكه والشجاع الميح لدمه والفارس البائع لحياته والقوي الواهب نفسه للخدمة والشاب المعرض نفسه للهلكات والشيخ الناصح والكهل الواعض والطفل الفرح والشابة المغنية بحماية الحي وحفظه والعجوز المنادية بذكر الاجداد وثار الاباء والاماه القائمة باعداد العقاقير ورفائد الجراح والعبيد المجدة في طلب الابلوجمعها في مرابدها والشيوخ القائمين بتدبير الاحياء وترتيب الفرسان والخطباء المنبثين في البيوت والصحارى والفيافي يخطبون الشارد ويردون الصادربكلمات تكاد تزهق بها روح الجبان وتطير بسرها روح الشجاع طرباً باللفظ وحبا للكر والفر والدفاع

وبهذا كانت العرب منيعة المقام كالعنقاء التي تكبر ان تصاد حتى هابتها الامم واتخذتها الملوك وقاية في مقدمة جيوشها تنقي بها الاعداء وتلتقي عليها النصال وتقصف في اقدامها السهام وتثلم في دروعها السيوف لما علموه من صفاء دمها الذي تحرك انتفخت به العروق