المفاسد وسلموه جنة حياتهم وروضة ثروتهم فدار به في الأسواق والطرقات وعرضه للعشاق تقبله جهاراً وتسلبه حلى أصابعه وزينة صدره وقد علموا أن الجمال يأسر الجميل فأحضروا من الغواني من تعارض الشمس بحسنها وتكسف البدر بنورها فدرنَ في سبيل بيته يغازلن أهله بنغمات تحرك الجبان ومؤانسة تستميل الشجعان حتى سلبن العقول وحولن الطباع وبغضن المحبوب إليهم وإلهينَ كل ذي لب عن أفكاره وأنسين كل مدبر ما كان يتصوره من نوابغ الحكم وغريب الأمثال وجعلن الجمال مبذولاً بلا قيمة والوصال ممنوحاً بلا مقدمات وذاك الصاحب مكب على هواه مغرم يجمع الغرباء واستعداء الأعداء ومصاحبة الأشقياء ومسامرة الأغبياء ينام ومحبوه قلق ويضحك ومعشوقه كئيب إلا أن هذا الغزال الطاهر العرض لما رأى أهله أهدروه وأهملوه واشتغلوا بالغواني وولعوا بخدمة الأجانب وانكبوا على الملاهي يتتبعون آثارها استسلم للقضاء وترك النفار والتحمس ومال مع أغراض هذا الصاحب وسار معه في طريق لا يرى فيه أحداً من أهله فما هي إلا رشفة كأس حتى اصفر وجهه وارتخت أعضاءه وذهبت بهجته فسلم جسمه الشريف إلى الفرش يتململ عليه ففطن له واحد من أهله وزاره في خربة لم يجد فيها غير شبح يعلل نفسه
بالأماني ويصعد الزفرات وقد برزت عظام وجهه وغارت عيناه وتشوه وجهه وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع فبكى وانتحب وقال:
أي حياتي أي جنتي أي نزهتي أي مطلع عزي ما الذي أصابك أين جمالك البديع أين محياك الزاهي أين حسنك الذي أفنى الكثير من العشاق أين صحتك التي أشابت الدهور وهي في عنفوان الشباب أين قوتك التي أسرت بها الأشباح أين رقتك التي جذبت بها الأرواح أين ما كان عليك من الحلة والزينة أين تاجك الذي ما لبسه إنسان إلا افتخر على الوجود أي نفس تراك في هذه الخربة ولا تفيض حزناً أي قلب يرى وهناك ولا يتقطر كمداً أي عين ترى تشويه ذاتك ولا تطمس أسفاً زحزح الهم عني بجواب يبين الحقيقة لعلي أتدارك من أمرك ما بقي وأحفظ من صحتك ما عساك أن تنشق به نسيم الحياة.
فتنفس المصاب تنفس الضعيف ورمقه بعين لا يكاد يتحرك جفنها وقال بصوت خفي (لا يعز عليك جسم أمرضه أهله) فإنكم تركتموني لصاحبي يدور بي أينما دار فعرضني لمن لم أعرف طبعه ولا عادته ولا لغته ووكل بي من يغرني ويسلك بي سبل الغواية فلم أجد بداً من الموافقة ودرت معهم في أماكن اللهو حتى أصبت بالداء الإفرنجي فلم أعبأ به في أول الأمر وتركت نفسي وكتمت خبري فإني لم أجد أحداً من أهلي حولي ولم أعلم أن الداء سرى في دمي وعروقي وتمكن من عظامي وأعصابي حتى لم يترك عضواً من أعضائي إلا نشب فيه فلما ضعفت قواي وتعطلت حواسي