تعالى:(وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن) فإنه لما أتى بالضمير، الذي هو (منه) قبل صاحبه الذي هو القرآن، كان ذلك تفخيماً له، وتعظيماً من أمره. ولو قال: وما تكون في شأن وما تتلو من القرآن، ولم يذكر الضمير لما كان للكلام تلك الفخامة التي كانت له مع ذكر الضمير، وهذا مثل قولهم (الكريم العالم الفاضل) ثم يقال: فلان وقد سبق الكلام عليه، فاعرف ذلك وقس عليه.
وأما الإبهام من غير تفسير، فكثير شائع في القرآن العزيز، كقوله تعالى:(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فقوله: للتي هي أقوم أي الطريقة أو الحالة أو الملة هي أقومها وأسدها، وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة الذي تجده مع الإبهام، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب، وإيقاعه على محتملات كثيرة، وهذا لا يخفى على العارف برموز صناعة التأليف فاعرفه.
ومما يدخل في هذا الباب الاستثناء العددي وهو ضرب من التأليف لطيف المأخذ عجيب المغزى. وإنما يفعل ذلك طلباً للمبالغة؛ لأن له تأثيراً شديداً في القلب،
وموقفاً عظيماً في النفس وفائدته (أن) أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد في العدد فيكبر موقع ذلك عنده، وهو شبيه بما ذكرناه من الإبهام أولاً ثم التفسير بعده ثانياً، فمن ذلك قوله تعالى:(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم سنة إلا خمسين عاماً) فإنه إنما قيل (ألف سنة إلا خمسين عاماً) ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً لفائدة حسنة، وهي ذكر ما ابتلى به نوح من أمته، وما كابده من طول المصابرة، ليكون ذلك تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتثبيتاً له، فإن ذلك رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع