إنما قدم العبادة على الاستعانة؛ لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول المطلوب، وأسرع لوقوع الإجابة. ولو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد، لكان جائزاً، إلا أنه لا يسد ذلك المسد ولا يقع ذلك الموقع، وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة.
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء ظهوراً لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً، وأناسي كثيرا).
ألا ترى كيف قدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس؟ وإن كان الناس أشرف محلاً وأعلى مكاناً. وسبب ذلك ما أذكره لك وهو أن حياة الأرض سبب لحياة الأنعام والناس. ولما كانت الأنعام أيضاً من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها على الناس في الذكر، ولأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم. فهذه نكت القرآن العجيبة ورموز أسراره اللطيفة التي إذا مر الإنسان عليها من غير أن يتدبرها، ويعطيها أفضل تأمل وتفكر لا يقع على خباياها، ولا يظفر بغرائبها.
ومن هذا النوع تقديم الأكثر على الأقل، كقوله تعالى (تم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فإنه إنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته وأن معظم الخلق عليه ثم أتي بعده بالمتصدقين؛ لأنهم قليل بالإضافة إليه، وأخر السابقين بالخيرات، إذ كانوا أقل من القليل أعني من المقتصدين، فقدم الأكثر ثم جاء بعده؛ بالأوسط ثم ذكر الأقل
أخيراً، وذلك لائق في بابه. ولو عكست القضية لكان المعنى أيضاً واقعاً في موقعه لأنه يكون قدم الأفضل فالأفضل؛ وذاك أن السابقين بالخيرات أفضل من المقتصدين، والمقتصدين أفضل من الظالمين؛ ولنوضح في ذلك طريقاً يعرفه مؤلف