في التخلص وأبدعوا فيه فاظهروا من ذلك العجائب والغرائب كقول علي بن الجهم:
وليلة كحلت بالنفس مقلتُها ... ألقت قناع الدجى في كل أخدود
قد كاد يُغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباس سناً من وجه داود
ألا ترى ما ألطف هذا التخلص وأحسنه؛ فانه ذكر أولاً الليلة وسوادها، وابتداء دجاها، وأنه في غمرات من ظلمتها كالغريق. ثم أدرج في ضمن كلامه، بعد ذلك، ذكر الممدوح بما يناسب ما هو من الظلمة، فذكر الإنارة والإضاءة بقوله:(سنا من وجه داود) فصار الكلام كأنما أفرغ إفراغاً واحداً، ومن هذا النحو قول
فهذا هو التخلص البديع في الصنعة الذي استحوذ على مجامع الحسن والرونق، فاعرفه.
وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي:(إن كتاب الله العزيز خال من الاقتضاب والتخلص). وهذا القول فاسد، لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تناسب بين الكلام الذي حرج منه والكلام الذي خرج إليه، وفي القرآن العظيم مواضع كثيرة من ذلك، كالخروج من الوعظ والتذكير بالإنذار والبشارة بالجنة