أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك، فلم أقدر على ما أرتضيه، فكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينحرف لساني إلى غيره.
فإذا كان هذا قول المبرد - مع علو منزلته، وارتفاع قدره -، فما ظنك بمن لم يستنشق رائحة هذه الصناعة؟ ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خير وزيادة الأدب على المنطق هجنة. فاعرف ذلك وقس عليه.
ولأجل تجويد الألفاظ وتهذيبها كان الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطية، والشاعر في القصيدة، بعد الفراغ من معانيها يشتغل بتنقيح ألفاظها، والتأنق في تجويدها، ليدل بذلك على براعته والتقدم في صناعته. ولو كان قصد هؤلاء القوم إفهام المعاني فقط اطرحوها، وربحوا كداً كبيراً، وأسقطوا عن أنفسهم تعباً زائداً. فينبغي لمؤلف الكلام حينئذ أن تكون ألفاظه رشيقة لائقة، متصفة بالصفات التي
يرد ذكرها في هذا الكتاب. ويكون معناه صواباً فيما قصد له. وإذا كان حسن التأليف لا يواتيك، ولا تصل قدرتك إليه وتجد اللفظة لا تقع موقعها، ولا تصير إلى مركزها، ولا تتصل بسلكها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير مواطنها، فإنك إن لم تتعاط صناعة التأليف من المنظوم والمنثور لم يعبك على ذلك أحد. ولو تكلفت ذلك ولم تكن حاذفاً به، ولا محكماً له استحققت عند ذلك العيب، واستوجبت الذم وجعلت نفسك غرضاً لسهام الملام. وإن كانت قريحتك لا تسمح لك، وتعصي عليك، بعد إجالة الفكر، وإطالة النظر فلا تعجل واترك نفسك في تلك الحالة، ثم عاود أمرك عند نشاطك وفراغ بالك؛ فانك لا تعدم حالة الإجابة من خاطرك، والمواتاة، إن كان لك قلب مجيب. وأعلم إنه ينبغي أن تستعمل في كتابك، إن كنت كاتباً، مخاطبة كل فريق من الناس، على قدر طبقاتهم في الفهم. والدليل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -