وأيضاً، فإن أرباب النظم لو أريد حصرهم، بل حصر أهل عصر واحد لتعذر
حصول ذلك، فكيف حصر جميعهم؟ وليس سبب هذا إلا وعورة مسلك النثر وشرف منزلته، وأنه لا يناله إلا الأفراد من الفضلاء، فإن قيل: إذا كانت العرب لا تكثر من النثر، وأكثرت من النظم، فليس ذلك دليلاً على أن النثر أصعب من النظم بل الأمر بالعكس من ذلك، وهو: أن النثر لما كان سهلاً عند العرب هيناً، والنظم شاقاً عليهم مستصعباً، عمدوا إلى الأصعب وتركوا الأسهل؛ لأنهم إنما كان غرضهم إظهار قوتهم في البلاغة والفصاحة، وإذا كان ذلك فيما هو أشق مسلكاً وأوعر مذهباً، كان أدل على نمكنهم من الكلام. وأما النثر، فما كان عندهم بمنزلة ما يرغبون فيه، ويتنافسون عليه؛ لسهولته عندهم! ولهذا لم يعتنوا به ويكثروا منه، كما فعلوا في النظم! وأما قولك: إن القرآن الكريم ورد نثراً، وتفضيلك النثر على النظم، لأن الله تعالى إنما أنزل القرآن ليكون آية لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة على يده، ليفحم به أولئك الفصحاء والبلغاء من العرب، لأنهم كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة، وحيث كان النثر سهلاً عندهم يسيراً عليهم أنزل الله تعالى القرآن على أسلوبه ليعجزهم، بما هو أسهل عليهم من غيره، ليكون ذلك أعظم في الإعجاز. وأبلغ الجواب عن ذلك أنا نقول أن هذا الذي ذكرته من أن النثر، كان أسهل على العرب من النظم، واستدلالك عليه بقلة رغبتهم فيه، واعتنائهم به، فليس ذلك دليلاً لك، بل هو دليل لنا دونك. وذاك إنه قد ثبت بإجماع منا أن العرب لم تكثر من النثر، وأكثرت من النظم، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان مكثراً من شيء أستدل بذلك على قدرته عليه، و (عدم) قصوره عن الوصول إليه. ولا يقال بأن إكثاره من هذا الشيء دليل على تعذره عليه، لأنه لو كان متعذراً عليه لما قدر على الإكثار منه، ولذلك لا يقال أيضاً: أن تقليله من هذا الشيء دليل على سهولته عنده لما أقل منه، وهذا مما لا يمكن النزاع فيه بحال من الأحوال.
وأما قولك: إن النثر لما كان عند العرب أسهل من النظم، أنزل الله تعالى القرآن الكريم