على أسلوبه، ليعجزهم بما هو أسهل عليهم من غيره، فيكون ذلك أدل على الإعجاز من كونه يجيء على أسلوب الأشق الأصعب. فالجواب عن ذلك أنا نقول: قد ثبت أن المعجزات التي على أيدي الأنبياء - صلوات الله عليهم - لم تأت مما كان سهلاً على أممهم، لأنهم إنما جاءوا بإحياء الأموات، وانشقاق البحر وانفجار الماء من الحجر، وما جرى هذا المجرى، وهذا الحكم أيضاً موجود في النثر، فإنه لما كان شاقاً على العرب، وليس فيهم من يقدر على الإتيان به إلا القليل، أنزل الله تعالى القرآن الكريم على نهجه وطريقة، لتكون المعجزة مناسبة لما جاءت (فيه). وذلك أن النثر من حيث ذاته أمر شاق مستصعب، وانضاق إلى ذلك كونه من عند الله تعالى فصار معجزاً بالضرورة، فاعرف ذلك.
وأما الوجه الشافي فهو: أن النثر ينوب مناب النظم، ولا ينوب النظم مناب النثر وذلك إنه إذا أخذ معنى من المعاني، وعبر عنه بلفظ مطابق له، وكان ذلك الكلام منثوراً، فإنه لا يمكن التعبير بمقدار ذلك اللفظ، ويكون الكلام شعراً، وذلك إنه يحتاج في الشعر إلى إقامة الوزن، وهذا لا يتم إلا بزيارة لفظ، أو نقصان لفظ، وإذا زيد على ذلك شيء صار في الكلام مالا حاجة فيه، إذ المعنى كان يصح بدونه، وإن نقص منه شيء صار المعنى ناقصاً عما كان عليه في الأول.
وأما الوجه الثالث: فهو أن النثر لا ينال الا بعد تحصيل آلاته المذكورة في صدر كتابنا هذا أو بعضها. وذلك بخلاف النظم، فإنه قد يقوله من لم يحصل من آلاته شيئاً البتة. وكثيراً ما رأينا ممن يقول الشعر الحسن، ويصيب في معانيه، ويجيد ألفاظه، وهو لا يعرف من آلات التأليف شيئاً، كالسوقة والعامة من أرباب الحرف والصنائع.
وأما الوجه الرابع: فهو أن النائر تعلو درجته حتى ينال الوزارة للخلفاء والملوك.
وأما الشاعر فلا تعلو درجته عن رتبة المستعطين، ومنزلة الطالبين لما في أيدي الناس. ولولا فضل النائر وما عرف من شرف صنعته والحاجة إليها، لما رقي إلى درجة الوزارة. وكذلك الشاعر؛ فلولا كساد صنعته والاستغناء عنها، لعلت درجته وارتفعت منزلته، ولما كان في طول عمره كلاً على الناس، وهذا شيء مطرد لم يزل. وقد شوهد رأي العين، فلا يمكن النزاع فيه يحال من الأحوال.