نفسك حول هذا المرام البعيد، وكلفتها صعود هذا المرمى النازح، فقد أممت أمراً عظيماً، وتعرضت لخطب جسيم) وفقنا الله وإياكم لمواقع الصواب.
ولنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من ذكر الفصاحة والبلاغة، والكشف عن حقيقتها واختصاصهما، فنقول: اعلم أن أصل الفصاحة في وضع اللغة: الظهور والبيان؛ يقال: أفصح الصبح إذا بدا ضوؤه وأسفر، وأفصح فلان عما في نفسه: إذا أظهره، وإنما سمي اللفظ فصيحاً لأنه يبين المقصود، ويوضح المعنى المندرج تحته.
والفصاحة: اسم عام يشمل المفرد من اللفظ والمركب، وإنما كان الأمر كذلك لأن واضع اللغة إنما وضع الألفاظ مفردة لا مركبة، فالفصاحة شملت أولا المفردة، وإذا شملت المفردة فمن الضرورة شمولها للمركبة؛ لأن المركبة مجتمعة من المفردة. وكل مركب كانت أجزاؤه ذات صفة هي فيها متساوية فتلك الصفة تعمه لا محالة.
واعلم أيضاً أن الفصاحة أمر إضافي كالحسن والقبح. والكلام الفصيح ليس كلاماً مخصوصاً بعينه، بل كل من فهم كلاماً وعرفه فهو فصيح بالنسبة إليه، ظاهر عنده، وواضح لديه. ومما يقوي هذا القول، أن اللفظ الذي لا نعده نحن في زماننا هذا فصيحاً، ونكرهه مشتهراً. ولولا ذلك لما أوردوه في كلامهم، فإن معظم أشعار العرب ومن يليهم من المحدثين مشحونة ومملوءة منه. ولو استعمل في زماننا هذا لاستنكر واستبشع، وحكم على قائله بالجهل والتعسف. ورأينا أبا محمد بن سنان الخفاجي قد قال في كتابه: إن الفصاحة نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ. ثم إنه قسم الشروط إلى قسمين، أحدهما يوجد في اللفظة المفردة، والآخر يوجد في الألفاظ المركبة، وجعل ما يختص باللفظة المفردة منقسماً إلى ثمانية أقسام، كتباعد مخارج