الاستعارة. ولم يذكروا أن الأصل فيه تشبيه بليغ؛ فما أعلم هل ذلك لخفائه عليهم، أو أنهم عرفوه ولم يذكروه، وهو الأصل المقيس عليه في التشبيه، الذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان. وقد أوردناه نحن في كتابنا هذا في باب الاستعارة تشبهاً بالقوم، واستناناً بسنتهم؛ لأنهم السابقون في هذا الفن بالتصنيف، إلا أن موضعه باب التشبيه. فاعرف ذلك.
واعلم إنه قد أجمع الجمهور من العلماء على أن للاستعارة مزية وفضلاً على
حقيقتها؛ والسبب في ذلك أنك إذا قلت:(رأيت أسداً) كان لكلامك مزية، لا تكون إذا قلت:(رأيت رجلاً هو كالأسد سواء، في الشجاعة، وقوة القلب، وشدة البطش). وليست المزية التي تثبتها لهذا الجنس على الكلام المتروك على ظاهره، ولكنها في طريق إثباتك، لها وتقريرك إياها، معلومة من قرائن الأحوال، فليست المزية في قولك:(رأيت أسداً) إنه دل على شجاعة زائدة، وشدة وافرة، بل أنك أثبت للمستعار له الشجاعة الزائدة والشدة الوافرة، من وجه هي أبلغ وآكد، وأوجبتها له إيجاباً هو أشد وأقوى، لأنك أثبتها بالدلائل والشواهد. فإذا سمعتهم يقولون: إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نيلاً، فإنهم لا يريدون الشجاعة والشدة وغير ذلك، وإنما يريدون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له، ويخبر بها عنه من طريق هو أشد وآكد. وسيأتي بيان ذلك في باب التشبيه مستوفى، إن شاء الله.
واعلم أن الاستعارة جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب (بيان) أحدهما بالآخر، ولا بد للاستعارة من ثلاثة أشياء: مستعار، ومستعار منه، ومستعار له، فاللفظ المستعار، قد نقل من أصل إلى فرع للإبانة. والمستعار منه والمستعار له، لفظان حمل أحدهما على الآخر في معنى من المعاني؛ هو حقيقي للمحمول عليه، مجازي للمحمول. مثال ذلك قوله تعالى:(واشتعل الرأس شيبا) فهذا مستعار، ومستعار منه، ومستعار له؛ فالمستعار هو الاشتعال،