للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد نقل الأصل الذي هو النار إلى الفرع الذي هو الشيب، قصداً للإبانة، وأما المستعار منه فهو النار والاشتعال لها حقيقة. وأما المستعار له فهو الشيب، والاشتعال له مجاز.

واعلم أن أبلغ الاستعارات ما ناب التشبيه منابها، وكلما زدت التشبيه فيها إخفاء ازدادت الاستعارة حسناً ورونقاً؛ حتى إنك تراها أعجب ما يكون، إذا كان الكلام ألف تأليفاً إن أردت أن تفصح فيه بالتشبيه خرجت إلى شيء يحط من درجته،

ويضع من قدره؛ ويدلنا على ذلك قول بعضهم.

أثمرتْ أغصان راحته ... لجُناةِ الحسن عنُابا

ألا ترى أنك لو كلفت نفسك أن تظهر التشبيه، وتفصح به احتجت إلى أن تقول: أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان، لطالب الحسن، شيه العناب من أطرافها المخضولة!؟

ومن له أدنى تشبث بهذه الصناعة، يعلم الفضيلة بين ما تضمنه هذا البيت من الاستعارة، وبين إظهاره إلى التشبيه. فاعرف ذلك وقس عليه.

وحيث انتهى بنا القول إلى هذا المقام، ونبهنا على هذه الأصول، فلنتبعها بما ينخرط في سلكها من الكلام على الجيد من الاستعارة؛ الذي يجب على المؤلف اُستعماله، والرديء الذي ينبغي له اُجتنابه والبعد عنه، فنقول: الاستعارة تنقسم قسمين:

الأول، يجب اُستعماله: وهو ما كان بينه وبين ما اُستعير له تشابه وتناسب، ولنضرب له أمثلة يستدل بها عليه: فمن ذلك قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار). وهذا الوصف إنما هو على ما يظهر للعين لا على حقيقة المعنى؛ لأن الليل والنهار اُسمان يقعان على هذا الجو عند إظلامه وإضاءته بغروب الشمس وطلوعها، وليسا على الحقيقة شيئين يسلخ أحدهما من الآخر، إلا أنهما في رأي العين كأنهما كذلك. والسلخ يكون في الشيء الملتحم بعضه ببعض، فلما كانت هوادي الصبح عند طلوعه، كالملتحمة بأعجاز الليل، أجري عليهما اسم السلخ، وكان

<<  <   >  >>