للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك لائقاً في بابه، وهو أولى من قوله (يخرج) لأن السلخ أدل على الالتحام المتوهم من الإخراج، وذلك أن انسلاخ الشيء، هو أن يميز أحدهما من الآخر، ويزول عنه بالتدريج، حالاً فحالاً، كما ينسلخ جلد الشاة عنها. وكذلك انفصال الليل عن النهار. فانظر أيها المتأمل لهذه الاستعارة، شدة التناسب الذي

بينها وبين ما اُستعيرت له، ومشابهتها إياه؛ فإنها من الاستعارات التي لا أمد فوقها في الحسن.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى، عز وجل: (واشتعل الرأس شيباً) وقد ذكر علماء البيان في هذا، ما نورده هاهنا. وهو: أن الشيب لما كان يأخذ في الرأس، ويسعى فيه شيئاً فشيئاً، حتى يحيله إلى غير لونه الأول، كان بمنزله النار التي تشعل في الجسم وتسري فيه، حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة. وهذا كلام مرضي في بابه، إلا أن هاهنا نكتة أخرى، وذلك إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، ولأنه لم يبق إلا الخمود بعده. فهذه الاستعارة البديعة هي التي تعجز القدرة عن الإتيان بمثلها، ومما دون ذلك في الطبقة، قول أبي تمام:

ومعرَّس للغيث يخفق بينه ... راياتُ كل دُجُنّةٍ وطفاء

فإن استعارة هذا البيت صالحة مرضية، لملاءمتها ما استعيرت له، فحيث جعل للسحابة رايات كان ذلك مناسباً، لأن الهيدب الذي يستبين للناظر في الجو عند انسكاب السحابة، يكون مشابهاً لذوائب الرايات. وأما قوله (يخفق) فهو أيضاً حسن مرضي؛ لان الريح إذا هبت على الرايات خفقت بنودها، وجاء لها صوت كصوت السحابة في انسكابها وهمولها وانصبابها، ولا سيما الوطفاء.

<<  <   >  >>