(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كان لم تغن بالأمس) الآية، فشبهت حال الدنيا بسرعة زوالها، وانقراض نعيمها، بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً، بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض. وذلك تشبيه معنى بصورة. وهو من أبدع ما يجيء في هذا القسم، فاعرفه.
ومما جاء على نحو منه، قوله عز وجل في حق المنافقين:(مثلهم كمثل الذي أستو قد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون). تقديره: أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد ناراً، في ليلة مظلمة، بمفازة، فاستضاء بها ما حوله، فاتقى ما يخاف وأمن، فبينا هو كذلك، إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيراً. وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها، واعتز بعزها، وأمن على نفسه وماله وولده. فإذا مات عاد إلى الخوف، وبقي في العذاب والنقمة.
واعلم أنهم لما وصفوا بأنهم اُشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه، بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم، بذهاب الله بنورهم، وتركهم في الظلمات، ثم قال الله تعالى (صم بكم عمي). كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا مسامعهم عن الاصاخة، وأبو أن ينطقوا به السنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم، جعلوا كأنما أصابت هذه الحواس منهم الآفات، وهذا من عجائب التشبيه، وطريقته عند علماء البيان،
طريقة قولهم (ليوث) للشجعان، و (بحور) للكرام وبعض علماء هذه الصناعة يجعلون ما كان على مثال قوله تعالى: (صم بكم عمي) استعارة، وليس كذلك كأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق بحيث يطوى