اودع سُبْحَانَهُ هَذَا السِّرّ العجيب فِي هَذَا الْمِقْدَار الصَّغِير بِحَيْثُ تنطبع فِيهِ صُورَة السَّمَوَات مَعَ اتساع اكنافها وتباعد اقطارها وشق لَهُ السّمع وَخلق الاذن احسن خلقه وابلغها فِي حُصُول الْمَقْصُود مِنْهَا فَجَعلهَا مجوفة كالصدفة لِتجمع الصَّوْت فتؤديه الى الصماخ وليحس بدبيب الْحَيَوَان فِيهَا فيبادر الى اخراجه وَجعل فِيهَا غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الْهَوَاء وَالصَّوْت الدَّاخِل فتكسر حِدته ثمَّ تُؤَدِّيه الى الصماخ وَمن حِكْمَة ذَلِك ان يطول بِهِ الطَّرِيق على الْحَيَوَان فَلَا يصل الى الصماخ حَتَّى يَسْتَيْقِظ اَوْ ينتبه لامساكه وَفِيه ايضا حكم غير ذَلِك ثمَّ اقْتَضَت حِكْمَة الرب الْخَالِق سُبْحَانَهُ ان جعل مَاء الاذن مرا فِي غَايَة المرارة فَلَا يُجَاوِزهُ الْحَيَوَان وَلَا يقطعهُ دَاخِلا الى بَاطِن الاذن بل إِذا وصل اليه اعْمَلْ الْحِيلَة فِي رُجُوعه وَجعل مَاء الْعَينَيْنِ ملحا ليحفظها فَإِنَّهَا شحمة قَابِلَة للْفَسَاد فَكَانَت ملوحة مَائِهَا صِيَانة لَهَا وحفظا وَجعل مَاء الْفَم عذبا حلوا ليدرك بِهِ طعوم الاشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ على غير هَذِه الصّفة لاحالها الى طَبِيعَته كَمَا ان من عرض لفمه المرارة اسْتمرّ طعم الاشياء الَّتِي لَيست بِمرَّة كَمَا قيل
وَمن يَك ذَا فَم مر مَرِيض ... يجدمرا بِهِ المَاء الزلالا
وَنصب سُبْحَانَهُ قَصَبَة الانف فِي الْوَجْه فَأحْسن شكله وهيأته وَوَضعه وَفتح فِيهِ المنخرين وحجز بَينهمَا بحاجز واودع فيهمَا حاسة الشم الَّتِي تدْرك بهَا انواع الروائح الطّيبَة والخبيثة والنافعة والضارة وليستنشق بِهِ الْهَوَاء فيوصله الى الْقلب فيتروح بِهِ ويتغذى بِهِ ثمَّ لم يَجْعَل فِي دَاخله من الاعوجاجات والغضون مَا جعل فِي الاذن لِئَلَّا يمسك الرَّائِحَة فيضعفها وَيقطع مجْراهَا وَجعله سُبْحَانَهُ مصبا تنحدر اليه فضلات الدِّمَاغ فتجتمع فِيهِ ثمَّ تخرج مِنْهُ واقتضت حكمته ان جعل اعلاه ادق من اسفله لَان اسفله إِذا كَانَ وَاسِعًا اجْتمعت فِيهِ تِلْكَ الفضلات فَخرجت بسهولة ولانه يَأْخُذ من الْهَوَاء ملأَهُ ثمَّ يتصاعد فِي مجْرَاه قَلِيلا حَتَّى يصل الى الْقلب وصُولا لَا يضرّهُ وَلَا يزعجه ثمَّ فصل بَين المنخرين بحاجز بَينهمَا حِكْمَة مِنْهُ وَرَحْمَة فَإِنَّهُ لما كَانَ قَصَبَة ومجرى ساترا لما يتحدر فِيهِ من فضلات الراس ومجرى النَّفس الصاعد مِنْهُ جعل فِي وَسطه حاجزا لِئَلَّا يفْسد بِمَا يجرى فِيهِ فَيمْنَع نشقه للنَّفس بل إِمَّا ان تعتمد الفضلات نازلة من اُحْدُ المنفذين فِي الْغَالِب فَيبقى الاخر للتنفس وَإِمَّا ان يجرى فيهمَا فينقسم فَلَا ينسد الانف جملَة بل يبْقى فِيهِ مدْخل للتنفس وايضا فَإِنَّهُ لما كَانَ عضوا وَاحِدًا وحاسة وَاحِدَة وَلم يكن عضوين وحاستين كالاذنين والعينين اللَّتَيْنِ اقْتَضَت الْحِكْمَة تعددهما فَإِنَّهُ رُبمَا اصيبت احداهما اوعرضت لَهَا آفَة تمنعها من كمالها فَتكون الاخرى سَالِمَة فَلَا تتعطل
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute